كان زعلان.. صار أسفاً !
كان زعلان.. صار أسفاً !
*إذا كنت لا تعلم أين تذهب
فكل الطرق تفي بالغرض ..
بعد ساعات من الاستقبال الملئ بنظرات الاتهام النمطية التي تواجه كل من يدخل إلى مؤسسة أمنية ( فرع، الأفضل كتسمية ) …
وبعد استجواب متعدد، وأسئلة للتسجيل، واستمارة تحصي كل من تعرف ولا تعرف من أفراد العائلة …
نصل إلى اختتام الاتهام ونهايات الدفاع .
وفي انتظار المعلم، الذي سيقرأ صفحات من البديهيات أسئلة وإجابات .
بعد ساعات وساعات . يطلبك ( يطلبني ) المعلم . هاشَّاً، باشّاً، بريء الوجه، دافئ المصافحة، ويقول : إن شاء الله ما انزعجت ؟
صمتت ، مبتسماً في ودّ كاذب .
أعاد السؤال بصيغة أخرى : أكيد زعلان منّا ؟
صمتت هذه المرة ، ليس لأوحي بأي شيء. ولا لأؤثر فيه، أو أتعالى عنه … كنت ذلك الرجل البدائي الذي تذوق، لأول مرة، وهو يجرّب أعشاب البرية، ليعرف الصالح منها لطعامه … فتعرّف إلى … المرارة … الطعم المرّ !
هكذا كانت المرارة في حلق كأنه لم يقل شعراً في جمهور، ولا آراء في ندوات، ولم تسلك طريقها منه إلى القلب، قبلة أولى في حب أول …
قلت له :
يا سيدي أنا زعلان فعلاً . ولكن ليس منكم . فهذا ما لا تكترثون به . ومما لا يجدي !
أنا زعلان على حالي أولاً
أنا زعلان على البلد ! ( أنتم تبالغون عادة في تسمية الوطن ) وهو أسوأ أنواع التسميات . خارج أناشيد الطفولة الأولى ، زمن الإنشاء الأول ، والأمل الأول .
الوطن ( سامحني يا سيدي ) ليس نوعاً من الخدمة الإلزامية ، نقضيها ونمضي . إنه حياة يومية ، علاقات بشر ، في كل مكان وموقع ، ويعني الجميع بلا هوادة أو استثناء !
الوطن … أم ، تماماً أم . ولكن ليس بمكونات وقوة غريزتها فقط ، بل بصلاحيتها لدوام الحب … واللطف ، والعطف ، وتوريث الصفات المكتسبة ، أكثر من تثبيت الصفات الموروثة . والألقاب الموروثة . والطبقة الموروثة !
لاحظت أنني بدأت أثرثر كمن أتيحت له فرصة أولى لتدوين لائحة اتهام لشخص ، لا يقبل أن يكون متهماً. ولديه القدرة على وضعك في قفص من صنع يديك أنت .. فتصبح بدل خطيب منبر في سوق عكاظ … جرذاً في مصيدة
قال: لماذا ، أولاً ، أنت زعلان على حالك ؟
قلت له: وأنا في حالة زعل فعلاً :
– عمري أقسام ، أحد هذه الأقسام له علاقة بالكتابة . استنتجت أننا ، نحن الكتاب والشعراء والفنانين كلما أبدعنا أكثر صارت الحياة ( لا تزعل مني أرجوك ) خراء أكثر !
عمري خمس وستون عاماً. تعلمت خلالها ليس اتقان الكلام، فأخفي ما تخافونه وتخيفوننا من الذي نخفيه !
أنت استدعيتني لاعتقادك أنني قصدت شيئاً خفياً في جملة واضحة !
وها نحن معاً ، أخصام في … الوطن . وسأسألك من أعطى شعرك الأسود الفتي محاسبة شعري الأبيض الشقي ؟
أنا زعلان على عمر انقضى في شجون لا معنى لها وكان ممكناً أن أقضيه في شؤون متعددة المعاني !
أما … لماذا أنا زعلان على البلد ؟
فأكتفي بتذكيرك بهذا البيت للمتنبي:
ولم أر في عيوب الناس عيباً
كنقص القادرين على التمام
واسمح لي أن أختم كلامي بتذكيرك أن سورية كانت تطعم 25 مليون روماني قبل الميلاد . سورية تستطيع أن تكون قادرة مع … التمام !
صمت الرجل ثم مد يده إلى مكتبه ممسكاً بديوان المتنبي قائلاً : انظر .. إنه إلى جواري دائماً .
قلت :
القرآن إلى جوار المسلمين والتوراة إلى جوار اليهود ، والإنجيل إلى جوار المسيحيين . لكن المهم … أية مقابر ستتسع لجيران هذه الكتب . عبر الخطيئة والخطأ ؟!