مجزرة …الجوع
مجزرة …الجوع
” من يبلل يديه بالدم… سيغسلها بالدموع !”
أول مرة أزور فيها مخيم اليرموك كانت قبل ثلاثين سنة .
تهت في الطرقات وأنا أحمل رسائل سرية إلى رفيق ما هناك… ويومها، ولأن المخيم متاهة، نمت حيث كنت. وفي الصباح تفرجت على ما هو فلسطيني هناك. وعلى ما هو سوري وفلسطيني هناك…
في العام 1982 ، وفي إحدى الزيارات للمخيم… كان صوت محمود درويش يملأ المكان، بالأحرى الزمان الفلسطيني، بعد احتلال بيروت وخروج الفلسطينيين منها إلى المنافي، وكانت مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا تلطخ وجوه الجميع ،لاسيما وجه العرب الذين سكتوا عن احتلال أول عاصمه عربيه. ولقد رأيت وتحدثت إلى عدد من المذهولين، ممن نجا، وحده من أسرة كاملة، لأنه كان خارج المخيم أثناء المجزره .
صوت محمود درويش في “مديح الظل العالي” تلك القصيدة التي ألقاها في مدرج جامعة دمشق… والتي تصرخ الآن في المخيم، على بسطات الكاسيت، اقتطف هذا المقطع منهاعن المخيم المنكوب …
“صبرا
………..
صبرا…
لاتشتري وتبيع إلا صمتها، من أجل ورد للضفيرة.
صبرا تغني نصفها المفقود بين البحر والحرب الأخيرة.
لم ترحلون
وتتركون نساءكم في بطن ليل من حديد؟
لم ترحلون
وتعلقون مساءكم فوق المخيم والنشيد؟
صبرا… تغطي صدرها العاري بأغنية الوداع
وتعدّ كفيها وتخطىء
حين لا تجد الذراع :
……
صبرا… تمزق صدرها المكشوف:
كم مرة
تتفتح الزهرة؟
كم مرة
ستسافر الثورة؟
……..
صبرا… تقاطع شارعين على جسد
صبرا… نزول الروح في حجر
وصبرا… لا أحد
صبرا… هوية عصرنا حتى الأبد! ”
……………………
( حسناً أن محمود مات قبل أن يشهد المجزرة الأبشع … مجزرة الجوع)
في مخيم اليرموك، وانا أستعيد ما لا يزال طازجاً: المأساة، والشعر والفلسطيني الذي هاجر للمرة الخامسه من فلسطين إلى الأردن إلى لبنان إلى سورية … ومن اليرموك الآن إلى العراء والاصدقاء… اشتريت عدة نسخ من الكاسيت…وقلت سأوزعها على الأصدقاء…
ثم لاحقاً أصبحت علاقتي بالمخيم متعددة الأشكال، ومعظم الأصدقاء هناك. لكن، في كل عام، كان المركز الثقافي الفلسطيني يدعوني في مهرجانه إلى أمسية شعرية، وأذكر أنني هناك كنت أجد نفسي شاعراً فلسطسنياً، رغم أنني لم أذكر فلسطين (هكذا مباشرة) في أي قصيدة ألقيتها. لكن ثمة رائحة نقصان، ثمة لجوء، ثمة فقدان… كان موجوداً في أي نص كنت أقرأه، وكان الفلسطينيون يعتبرونني فلسطينياً…حتى صرت في العام 1984معهم في منافيهم عشر سنوات !
في العام 1985، دمرت الاشتباكات بين حركة أمل والفلسطينيين في مخيمات بيروت مخيمين… وفي الصور ثمة حيطان متداعية وفي ظلها عائلات تتغطى ببطانية وسماء غير رحيمة. كتبت يومها نصاً بعنوان :” هل على المخيم الفلسطيني أن يصعد إلى السماء؟”
ففي بلاد العروبة كلها انفرضت على الفلسطينيين كل أنواع الحقائب ، ونوع واحد من الإقامة الجبرية.
اليوم…
ومخيم اليرموك… البيئة المهرجان الفرح بالحياة، المكان الذي لا ينام، المكان الذي يفتخر فيه الفلسطيني بأنه سوري ، والسوري بأنه فلسطيني… تفترسه مجزرة، ليست القتل والإبادة والتهجير، كما جرت العادة، بل الجوع… مجزرة الجوع …. فقه جديد في الحروب: الموت جوعاً!
اليوم… مخيم اليرموك… المكان السخيّ أيام عزه، يأكل ساكنوه الإجباريون العشب. وأظنني لأول مرة في حياتي أرى عيني الجائع، وهو جثة، مفتوحتين على لحظة ذهوله وهو يغادر… بأن العالم جائع.
ولأول مرة في حياتي أرى فم الجائع، وهو جثة، مفتوحاً كأنما لانتظار لقمة الحياة!
هل على مخيم اليرموك أن يصعد إلى السماء هجرة سادسة وأخيرة؟
لايمكن تخيل هذا النوع من الشر…
لا يمكن تخيل هذا النوع من العذاب…
لايمكن تحمل منظر الأسواق الآمنة، المليئة بكل شيء، وتنسى وفرة أسواق وعالم المخيم السابق…
………..
يقال: الجوع ألدّ أعداء الكرامة البشرية.
وها هو الجوع يأتي إلى أكثر أنواع البشر حاجة إلى الكرامة البشرية…
الجوع…؟
لقد رأيت وسمعت وعلمت وشهدت أن اليهود لم يفعلوا بأي مخيم ما حل بمخيم اليرموك!
01.02.2014