وحدنا في الازدحام
وحدنا في الازدحام
( رأيت المنايا خبط عشواء …. )
هذه المدينة لا تطاق .
إنها لا تحتوي على بشر وحسب، بل كأنها تلدهم كل يوم. وسوف نسأل أحياناً في غباء: كيف يمكن لهذه المصانع إنتاج كل هذه السيارات في كل مدن العالم ؟ بشر وسيارات ومستلزمات أخرى لتأمين الزحام!
وربما يطيب لأحدنا التورط في الموافقة على نظرية دواء (( الموت عبر الحروب )) لتخفيف الضغط على أمنا الأرض، الولودة أكثر مما ينبغي. فهي أنجبت منذ مائتي عام فقط أكثر من ستة مليارات بني آدم. جاؤوا … كأنما جاؤوا وأيديهم مؤلفة من الفؤوس بدلاً من الأصابع . لقطع الأشجار سلماً وأعناق بعضهم حرباً .
وإذا روقب الازدحام من قبل علماء النفس، فلسوف يكونون من ضحاياه أيضاً. فالازدحام منتج حصري لما يسمى
(( الحصر النفسي )) وهو الكبت الاحترافي للأذى الذي لا تستطيع حياله شيئاً، فنصبح أسرى بيئة ثابتة فيما نحن قابلون للانفجار .
وحدنا في الازدحام
إذاً فلتذهب إلى البيت الذي يحتوي على تلك العذوبة السرية المنشأ، ولعلها الصمت، والأمان، ولعلها السلامة بالابتعاد عن الجموع.
عندما بدأت الأزمة السورية تدخل عالم القتل والأسلحة … خفَّ الازدحام قليلاً، ثمَّ كثيراً، ثم خلت الشوارع ليلاً من البشر، ودخلنا منطقة الشكوى من نوع آخر …. أين أخوة الضجيج ؟
لكن إخوة الضجيج موجودون في الطوابير التي لم تكن من تقاليد الحياة السوريَّة. وإخوة الضجيج موجودون، بصراحة، حيث لا ينبغي أن يكونوا، مثلاً أمام البنوك وكوى الصرافة، مع ظهور بوادر نوع من المستقبل هو (( اقتصاد الحاكورة )) أي اقتصاد المعيشة !
هكذا افتقدناهم، فذهبنا إليهم نهاراً جهاراً، أولئك الذين لم يغادروا دمشق … لأننا نعتقد أننا سنفتقدهم أكثر كلما تقدمت الحروب بعروض جديدة من الأذى وبكميات أخرى من المهاجرين !
وهكذا قررت أنا، أن أكون أحد أبناء الضجيج، ورائحة العرق البشري، سلالة مرايا الغياب المرّ لابتسامات البشر، كنت لا أتجنب الازدحام، ولا أشتم سائقي السيارات، قليلي الذوق، ولا أتضايق من براميل وأواني البنزين، وأتعمد بهذه الذبذبات المرتجفة للقلق العلني، أن أنتبه إلى دقات قلبي. أنتبه أكثر .
هكذا أيضاً …
انتبهت إلى دمشق ليلاً، وهي واهنة بفراغ شوارعها، ومطاعمها ومنتزهاتها .
انتبهت، لاحقاً، إلى أثر سرّي يتركه الخوف على فكرتنا عن مدينة أعرفها من نصف قرن. مدينة خيارات مفتوحة ومتعددة، مدينة سهر وصخب وسعادات من كل الأنواع . مدينة الاستيقاظ الهنيء على صوت الحياة تتمطى فيها أول الفجر!
قلت كما حصتي من الازدحام … ستكون هناك حصتي من السكينة والصمت وغرابة الشوارع عن أهلها الذاهبين من الخوف إلى النوم .
وكمما للازدحام عقوباته …. للسكون الليلي حساباته. ثمة في النهار صدام الأذواق، والأمزجة، ومخترعي قوانين الفوضى، وثمة في الليل الحواجز والقذائف، والأخطار الافتراضية من كل الأنواع .
لكن مرَّت السنة الأولى، وكأنها تدريب على السنة الثانية .
ومرت الثانية، وأصبح السوري محترفاً في البقاء على قدميه وهو في السيارة، وفي البقاء في سيارته وهو أمام القصف العشوائي .
وها هي السنة الثالثة …
فيها كرهت الازدحام نهاراً
وفيها كرهت السكون ليلاً
وفيها قررت الفرار، ليس إلى قطر أو السعودية ، أو باريس أو القاهرة. أو السماء ( فهي التي تقرر ! ) .
قررت طلب اللجوء إلى أصغر قرية ( ربما ) في سورية ( عين البوم ) …
لكن الذي حدث وفي اليوم الأول من وصولي …. هو ما يلي :
ليلاً، تلفن صاحبي في صلنفة ( وهي مدينة اصطياف فارغة، من المصطافين ) يدعوني إلى العشاء. قدت سيارتي في طريق لا أحد فيه ولا سيارة، ولا حتى قطة. طريق صمت مخيف، ومع ذلك صدمت فجأةً رجلاً يرتدي ثياب سوداء عمره تسعون سنة …
وأنا الآن أكتب هذا النص من غرفة حجز للشرطة .
في هذا الليل، أنا واثق أننا كنا وحدنا، أنا وهذا العجوز ! ولذلك استنتج أن القدر عنده قصف عشوائي !