وديع الصافي
ـ انقضت خمس ملايين سنة حتى
أصبح الإنسان يغني أفضل من العصفور ! ـ
قال لي: تعال إلى فندق المشتل / تونس/ سأعرفك على فنان تحبه.
قلت له: أقل من وديع الصافي ما بدّي !
قال : وديع شخصياً.
طرت إلى الفندق (كنت في تلك الأيام أعيش في تونس أوائل التسعينات)
استقبلنا وديع بابتسامته المشهورة بأنها :”مرحباً بالجميع”. وكان يتهيأ لمقابلة تلفزيونية .وضعت يدي على كتفه، وأخذته جانباً، ومعنا الصحافي جورج عين ملك (وسيط اللقاء) قلت له: كنت شايف حالي لأني عشت في أيامك وسمعتك .والآن أنا شايف حالي أكثر لأني التقيتك. وليكتمل مشوار شوفة الحال: أنا عازمك عبيتي. أمس اصطدت خنزير صغير، وعندي عرق توما. وما بدنا نتغالظ عليك ونطلب تغني… تعال نضحك!
هذا الرجل صار مثل الطفل… بكرا أنا عندك! ليش بكرا؟ نادى ابنه جورج وقال له: شو عندنا اليوم؟ قال جورج: ما شي!
اليوم مساءً…
جاء هذا الرجل الضخم الجميل، حاملاً باقة ورد مكتوب على بطاقتها تحية باسمة.
كان مبتهجاً باللحم المشوي والتبولة، والعرق. سألني بفضول أسئلة كثيرة، معظمها أجبت عليه بانحراف نحو الفكاهة، وبدأنا نروي النكات، والنوادر ونضحك .. كان معه ابنه جورج وصديقي الصحفي جورج. سألته عن فيلمون وهبي. عن الجوانب الشخصية، فروى ما حكاه له فيلمون قال:
كنت أذهب إلى الغابة المجاورة لمشفى المجانين… وهناك أمشي وأدندن لحناً قيد الخروج من شرنقته. موقعاً بالأصابع على صدري بعض الإيقاعات…
وكان وراء الشبك مجموعة مجانين (نزلاء المشفى) يتفرجون عليّ، وفجأة ناداني أحدهم أن أقترب، وحين صرت أمامه اجتمع رفاقه. فقال لي : أولاً ليش حبسوك هون؟ وثانياً ليش عمتعمل بأصابعك هيك على صدرك؟
قلت له : أنا فنان. أنا فيلمون وهبي، وعندما يأتيني اللحن بدندن فيه هيك.
ضحك المجنون وقال: كلنا بلشنا هيك !
انقضت السهرة دون غناء، ودون موسيقى. فقط ذكريات ، ونوادر، وضحك. وفاصل قصير من النقاش حول رباعيات الخيام. قلت له: هناك رباعيات غير المعروفة. طلب مني بحماس أن ازوده بها. وحول اختياراته من شعر المتنبي، وصعوبات غناء الشعر الكلاسيكي.
وأظنني قلت رأياً في فنه، أعجبه وقال، ربما مجاملة، هذه أول مرة أسمع مثل هذا الكلام :
هناك من إذا غنى أفرَحَ
هناك من إذا غنى أحزنَ
وهناك من إذا غنى… فتتّت الصخر .
أنت يا سيدي، من هذه الفصيلة !
فردّ علي بأن أنهينا العرق كله وأظن منطقة الإنشواء في الخنزير كله.
كانت الساعة الثالثة ليلاً عندما أوصلته إلى الفندق عن طريق جانبي في غابة صنوبر في ضواحي العاصمة تونس.
وتعمّدت أن نستمع إلى شريط قديم فيه مختارات من أغانيه القديمة.
أنصتنا في بطء ليل الغابة الساحرة، والقمر بدر، مع كل زخرفات الطبيعة الصامتة… وعندما وصلنا إلى الفندق ، وترجّل الوقت، فأصبح كل ما حدث، منذ اللحظة هذه، ماضياً. قال وديع: ” بتعرف… إني ما سمعت هذه الأغاني من ثلاثين سنة؟ شكراً… وبكرا ، بالحفلة، ذكرني غنّيلك ” عالبال يا عصفورة النهرين” .
في اليوم التالي، حضرنا حفلته، وكان قد حجز لنا في الصفوف الأولى. وبعد الوصلة الغنائية الأولى… التفت إلينا وابتسم ، ثم أشار إلى الفرقة، وهمس لابنه جورج ( عازف الكمان) شيئاً فتدفقت الموسيقى التمهيدية لاغنيتي المحزنه “علبال … ” ودموعنا .
قال لي جورج عين ملك (المرحوم طبعاً لاحقاً) : ما بدّك تسمع انطباع وديع عن السهرة؟ قال لي بالحرف الواحد :
” أنا طول عمري بروح لعند العالم بسهّرن ، أمس رحت لعند ناس… سهّروني !”
………………..
مع نبأ وفاة وديع الصافي، أحسست بكل مفردات النقصان ، الذي يداهم كل مفردات البهجة ، في الواقع وفي الأغاني…
فكتبت على الموبايل، هذه الرسالة:
“….ولا تخلّوا تيابها يتغّبروا…”
مات وديع الصافي…”
بحثت عن الأسماء ، التي ينبغي أن تشاركني النقصان ، فلم أجد من “أصدقائي الوديعيين” القدامى سوى أربعة أسماء… فالآخرون ، رحلوا أو ماتوا أو أضعت أرقامهم.
وجاءني الرد من الشاعر نزيه أبو عفش :
” قطعة بعد قطعة… يهترىء ثوب الحياة، التي نوشك أن ننساها .”
أحبك !!
14.10.2013
بوابة الشرق الاوسط الجديدة