يحدث أحياناً … هكذا !
يحدث أحياناً … هكذا !
ــــــــ الناس رجلان : رجل نائم في النور ورجل مستيقظ في الظلمة.
ثلاثة أجزاء لنص واحد … يحاول اكتشاف البسيط من المعقد في حكاية تحدث في كل مكان ، بذوق لغوي مختلف ، وبتذوق مختلف في جمع الحصى من نهر الذكريات!
هنا الجزء الأول.
عادت من الخليج في إجازة الصيف … والتقينا. كان بيننا ثلاث سنوات حب، وعام فراق واحد، ابتدأ بمغادرة محزنة في مطار دمشق، لتعمل في جريدة خليجية. لم تكن، في واقع الأمر تمتلك أسباباً كافية للهجرة والعمل. ولكنها، ربما سئمت من التتابع البطيء لأيام بلا جدوى في مناخ لا يخلو من الحرية. وربما كانت تفرّ من حريق خفي. لقد نجحت هناك وسلطت عليها الأضواء، وكنت، بين حين وآخر، أقرأ مقالاتها. وفي الملحق الأسبوعي للجريدة قرأت بعض قصائدها المتوهجة بحنين غامض، وأشواق مبهمة . وبين الحين والآخر تصلني رسائلها، فأكتب لها رسائل شوق وحب وتذكارات وأم . كنت، على الورق أحاول استعادتها هي وإعادتها. لكنها قالت دائماً: لن أعود الآن !!
كان العيب الوحيد، الوحيد تماماً، في علاقتنا أنها محكومة بشرط عدم الزواج. وهو شرط ناتج عن قرار اتخذته قبل عشرين عاماً [ أنا الآن في الأربعين ] رداً على إهانة أول حب.
ففي أول سنوات الجامعة وقعت في أول تجربة حب. ومن دون التفاصيل المملة في هذا الشأن، ولدى الكتاب عندما يكتبون عن فرادة الحبيبة والحب، نصل إلى النهاية. لقد ذهبت تلك الفتاة إلى أول عرض زواج دون مقاومة تذكر. ضغط عليها الأهل عدة ضغطات فاستسلمت للعريس الذهبي. واستسلمت أنا لذهول طازج. وعبأتني مفردات بيئتي بالكلمات اللازمة لتخفيف الهّم … ” المرأة الخائنة ” ومضى الزمن دون أن يفلح أي شيء في تهدئة خسائري .
فيما بعد … تطورت فكرة رفض الزواج لتصبح احترافاً للعزوبية . وهي الحالة التي تعتبر مصيدة نموذجية للفتيات. وكيما يتم الشكل الضروري والرمز والشعار والفلسفة … لهذا الاحتراف، كان لا بد من تعويض . فامتلأ اليأس من الزواج لدى معارفي من الفتيات، بتعويض معنوي لطيف: كنت عاشقاً محترفاً، أيضاً، بامتياز. لقد جرت دموع كثيرة على صدر العازب، مغوي النساء، ولكن نقطة كرامة شخصية لم تسفح في بيته. ولم يغش واحدة، ولم يقل كلمة لا يعنيها … وكنَّ جميعاً يذهبن ، بعد سنين ، إلى مصائرهن … دون أن يعلم كائن ما سراً واحداً من أسرارهن.
طوال تلك السنوات الطويلة لم يقل لواحدة ” أحبك ” حتى وهو يتعذب لكي يقولها. هذه الكلمة التي تتشكل في القلب، وتدوّرها الشفاه وتلهبها الشهوة … كانت رمزاً محرقاً لعذاب ذاكرة الفتى القديمة، حين كان يصعد إلى قمة قاسيون ويدوّر فمه كالذئب ويصرخ في الليل ” أنا أحبك ” . وتجيبه هي ، من عمق النوم ، وأنا أحبك ….
يقولون إذا انكسر القلب تحطم … لكن قلب الفتى انجبر في سرعة، وخاطته الأيام بالحديد وعلا الحديد الصدأ في ظلام السنوات . لقد أصبح الحب … ذلك النداء الخالد مجرد ” فكرة ” وأنه ، في حال وقوعه ذات معجزة ، ستكون الطريقة نهاية مكشوفة ومحزنة . أنه سيهزم في معركة ما ، وينضاف إلى سجل خسائر البشر ، وربما إلى مأوى حطامهم في ضواحي الحياة.
ـ 2 ـ
…. هذه الفتاة، الصحفية الشاعرة …. أدخلته في التجربة. هكذا، فجأة بصاعقة حب كان مستسلماً لنعاس جميل، ولسحر غامض. ومن اللحظة الأولى دوّر فمه كذئب، وعوى تلك الكلمة ” أحبك ” .
ربما لأنه تعب من التجربة. ربما لأنه لم يعد قادراً على احتمال رؤية أكتاف الفتيات وهن يغادرن بيته، بعد لحظات الهوى، متهدّلات، كأنّ على أكتافهن سماء منخفضة وغيماً ثقيلاً . ربما لأنها كانت تثرثر أحلاماً عذبه، وهذياناً إلهياً … ربما لأنها مكسورة القلب مثله، وفي تجارب خابت وتركت ندوبها.
…. ولكن الأكيد … أنه قرر، في لحظة هشاشة، أن يعيد، إلى ما تحت لسانه، طعم تلك القطرات من عسل الحب ورائحته. الحب الذي في الكتب، والأشعار، والموسيقى. الحب الذي من أجله تُرتكب الحماقات، وبه تصبح الحياة عملاً غير شاق، والأيام تقدّماً، ليس في العمر، وإنما في العذوبة .
ثم كان على العاشق أن يتَّخذ قراراً. ولم يستطع: طلبت منه الزواج …
فأصبح كلانا في مأزق، واكتملت اللعبة بأدواتها. كان لا بد من فراق صعب دونما سبب، أي سبب سوى تلك الشهوة الأبدية لانجاز طريق السالفين : الأسرة .
من الواضح أن قراراً واحداً يكفي لإنهاء علاقة، ولكن آلاف القرارات لا تستطيع أن تهني حباً، لقد كان الحب شعلة غير قابلة للانطفاء ولأنها كذلك، أصبح قرار الوداع سخيفاً، وحين نتفق عليه نعود عنه بعد ساعات، أو أيام، أو أسابيع.
ـ 3 ـ
في مقهى صغير التقينا، اليوم التالي لوصولها، فلم يكن في وسعي استقبالها في المطار مع جمهرة الأهل والأقارب، معرّضاً نفسي للنظرات اللائمة والمستريبة، والمتَّهمة.
مع فنجان القهوة، وفي ثوانٍ من اللهفة ومفردات الإنسان المحب … اكتشفت شيئاً جعلني أحس بثقل وزني على الكرسي كأنما مسكوب من رصاص.
وأصبت دفعة واحدة، بدوار عاصف سريع. وعميت لبرهة من الزمن …
كان في عينيها شيء أصم …
كانت رائحتها بلا رنين …
كان صوتها مكسوراً …
لقد عرفت، وفي لحظة إلهام، أن هذا الوجه الذي أمامي هو وجه قد أنجز، منذ وقتٍ ما، وداعه !
كان الكلام عسيراً ولا معنى له. والصمت مؤذٍ ولا معنى له. وقبل أن ننهي قهوتنا ناديت الشاب الذي كان يراقب حدوث الصمت، ويرانا بقعتي ظلال متكتّكة على حائط المكان … ودفعت الحساب. ثم كان الطريق الذي خرجنا إليه مزدحماً بالناس في المساء الخريفي.
الطريق المزدحم كان رحيماً … وافترقنا !!