يحدث هكذا أحياناً !
يحدث هكذا أحياناً !
القسم الثالث والأخير
ما حدث كان يمكن ألا يحدث. لو أننا حدَّقنا جيداً في وجه الحب. ذلك الوجه الوسيم الموصول في لهفة الكائنات، بكل جمال الأشياء وصوتها. لو أننا همدنا تعزيزاً لفكرتنا ” الحب”، وحده، يكفي لمسيرة أميال الحياة القصيرة “. ولكن ليس من حقنا، ونحن من الطين القديم … طمي الأنهار حيث يتكون الإنسان الأول …
ليس من حقنا، وليس بوسعنا، أنه نحلم بكمال الأسطورة. فلو اكتملت لانتهى سعينا فيها ومنها وإليها … أسطورة كمالنا الذكي !!
ها نحن خارجان من لوح حجري في ” نينوى ” ما في هذا الكون، تاركين وراءنا الرماد والذهب، وناياً كسَّره التقادم! ها نحن، مثل غيرنا، نذهب في لحظة واحدة إلى نقص اتحاد النوع الإنساني.
لقد أحببتك كمن يكتشف دهشته. وأخذت من أعماق قلبك الجميل، خلال سنين، أجمل ما أنا مدين لك به : صمود النبل فيَّ رغم العار في الخارج .
والقدرة على رؤية الأشياء غير المنظورة، في عالم لا يعترف إلا بضجيجه الساذج.
وأنا مدين لك بالتأمل الصادق، دون مفردات، بظواهر عادية، وأفكار فقيرة، وأشياء تبدو عديمة القيمة!
أنتِ من إذا غادر … ترك فراغاً في الهواء. كنت حينذاك أكابد التنفس الصعب لساعات. وكنت أداري ذلك وأخفيه، لأنني تعلمت، قديماً، أن الأشياء الجميلة ذات عمر قصير، وإن العذوبة قطرة ندىً وليست نهراً دائم الجريان .
ما ينبغي على المحب أن يفعله في دهر، ويمتنع عنه في لحظة … تعلمته من علاقات الخراب. من الجرح في الجسد، والطعنة في الروح. من المسامحة والغفران وتكديس الخسائر !!
سأبقى وفياً لفكرة الحب. تلك التميمة الفقيرة المغبَّرة. المتكأ الاحتياطي لخد العاشق. سأبقى وفياً لكي تتصفَّى ، بفعل التكرار وقوَّة الإيمان، تلك الروح الباحثة أبداً عن مستقرها اللائق.
سأبقى وفياً لأنني أود صيانة ما تبقى من الأيام تنزيهاً لها عن الكره واللؤم وخسَّةِ الخاسر !!
أما أنت ِ …
يحدث هكذا أحياناً !
فقد ذهبت ِ إلى تعويض كاذب. إلى شهوة مجد جعلت كل المنتصرين، في عز انتصارهم، أبأس الخاسرين.
ذهبتِ إلى مؤقت تاركةً ما فيك من احتمال. لقد غشَّكِ بريقٌ، وبهركِ ضوء، وخلف مفردات صحراء أثرتها الصدفة والنفط … ركضتِ لتلحقي بما فات. بدأتِ سلّماً عليه آثار الجلود لأقدام صعدت ولم تصل. وإنك لتدخلين جحيماً مجرّباً وجحراً ملوناً، ودرباً مسدوداً … بتعويض مألوف لمن يرتمي فيما ليس مكانه، وعلى من ليس يحميه من تلقاء مروءته. أنت لا تلتفتين فيما حولك إلى ثراء المكان، بل إلى ثروته …. تنتبهين إلى ما هو معروض عليك ثمناً لكِ، وتنسين أن لغة الثمن هي الفكرة التي أنشأت البازار .
كان ينبغي أن تقولي تغيَّركِ لا أن التقيه. وأن ترسلي غيومك، أولاً، لأحتمي بعزلتي … وأن يكون الختام جديراتً بالبداية.
يحدث هكذا أحياناً !….
كان ينبغي أن تجنّبي من أحبَّك، ذلك الطعم اللاذع للكره.
كان ينبغي أن ينتصر الحب مرة واحدة على ثبات منظومته … على هزيمته.
الحب كائن مخصص للهزيمة … هكذا السلام عليك … والوداع لك !!
7
في اليوم السابع …
قمت بأعمال التنظيف. ونفض الغبار. وترتيب البيت.
أنزلت عن الحيطان كل الصور التي عُلِّقت من أجلها.
وعن المكتب رفعت صورتها، وابتسامتها.
غيَّرت شكل البيت. خربطت المقاعد وزوايا الجلوس. غيَّرت اتجاه السرير.
ورميت قدحين من الكريستال في الزبالة.
بهدوء استعاد البيت شكله القديم العازب: عادت الأشياء إلى مكانها. الفوضى عادت. الأوراق المبعثرة. الكتب المتروكة على صفحة مقروءة. الأفلام الموزعة … والشمس كأنما دخلت من الاتجاهات الأربعة … وفيما أنا أحوّل بيتي إلى شكله القديم .. الجديد كان في صدري جرس كاتدرائية بعيدة يدق في هدوء.
وضعت شريطاً صدحت من مكبرات الصوت، الموزعة في كل الغرف، موسيقى. كان شريطاً عازباً أيضاً. جلست أمام النافذة وانتبهت إلى شجرة الحور الأخيرة على الرصيف المقابل. كانت تتمايل وتتمايل على نحوٍ عازبٍ أيضاً. جلست طويلاً ، وأمسكت التيلفون وطلبت رفيقة قديمة كنت أسميها ” طباخة الإصغاء ” لأنها أفضل من يضع عينيه وأذنيه تحت تصرفك، الوقت الذي تشاء. قالت ستأتي بعد الظهر… فأصررت أن تأتي على الغداء. وافقت. أغلقت السماعة. وفوراً قفزت إلى المطبخ . لبست المريلة الحمراء المنقطة . أخرجت من البراد لحوماً وقشَّرت البطاطا والبصل، وانهمكت نشيطاً خفيفاً , بتحضير الوجبة المفضلة لرفيقتي
” طباخة الإصغاء “.
ثم أشعلت سيجارة . نفخت من صميم سروري الفاجع. وعاد لي ذلك الإحساس الدائم ” بأنني أنا المتوَّج … رغم أن الآخرين هم المنتصرون ” .!!
دمشق 1997
02.09.2013