أصدقائي “الأيزيديون “

لست أدري إن كان التاريخ ” رحيماً ” ببلادنا التونسية فجعلها ” شبه متجانسة ” في نسيجها العرقي ومزاجها المذهبي إلاّ ما خلا من بعض الأقليات ذات الحضور المتحفي الباهت والتفعيل الفولكلوري السياحي، حتى بتنا أشبه بعائلة واحدة تجهر بمعتقداتها، تمارس طقوسها وتناقش أسرارها تحت الشمس …بل لا أسرار لدينا إلاّ ما تكتبه الصحف وتقوله الإذاعات وتظهره المحطات التلفزية .

هكذا نأى بنا التاريخ عن غليان القدور الطائفية والقومية والإثنيّة في دهاليز المشرق العربي ذي التلوّن المدهش في “الملل والنحل ” …كيف لا وهو مهبط الديانات ومهد الحضارات ومربط الفرس في السياسات الدوليّة منذ فجر التاريخ .

من عاش مثلي زهاء ثلاثين عاما في مدن المشرق فاعلاً ومتفاعلاً في دراماه المسرحية والتلفزية والاجتماعية ، يزعم بالضرورة أنّه قد خبر الكثير من أغواره وتفاصيله حتى في ضرورة الحذر والتنبّه إلى طرق التحيّة في المقهى والشارع وأسماء الناس وألوان وهيئة ملابسهم التي تحمل علامات صريحة وتشي بخلفيّة طائفيّة أو مذهبيّة أو عرقيّة ….خشية أن تنزلق في صدام عنيف لم تكن تتقصّده أو تشعل شرارة طائفية قاتلة ولا تحمد عقباها …ألم يقل علي بن أبي طالب ” الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها “.

غالباً ما يقودني فضولي إلى السؤال عن أدق التفاصيل في الديانات وطرق العبادة لدى العامة ورجال الدين، وكثيراً ما كنت أندهش لحقائق تجاهلتها الكتب والأقلام غير البريئة، حرّفتها الإشاعات المغرضة وشوّهتها الإنغلاقات المقيتة بذريعة الخوف من الوقوع في المحظور وتحت يافطة ” الدين لله والوطن للجميع “.

ربما مكّنتني جنسيتي التونسية البعيدة عن “شبهة الاصطفاف المذهبي ” من فتح صناديق يلفّها الغموض لدى أهل البلد أو حتى من أبناء الطائفة الواحدة خصوصاً من ذوي النشأة العلمانية فحاورت رجال دين لم يسبق لهم أن التقوا تحت سقف واحد .

أعتقد ـ وبعد هذا الاستطراد المطوّل ـ أنّ من حقّي أن أستشيط غضباً أمام من يدلي بدلوه في المعتقدات والأقليات الدينية المشرقية دون علم أو معايشة كالأيزيديّة مثلا …

هم مجموعة كردية عانت الأمرّين , من ظلم ذوي القربى وبني جلدتهم أوّلاً ـ قبل أن يحتضنوهم الآن في كوردستان ـ أثناء محنتهم في الموصل، والذين يعتنقون في غالبيتهم المذهب السني إضافة إلى أقلية شيعيّة في العراق وإيران وكذلك بعض اليهود لعلّ أشهرهم وزير الحرب الاسرائيلي السابق اسحق موردخاي .

” ازاد ” تعني في الكردية ـ التي أتقنها قليلاً ـ “الخالق “كما تعني “خودي ” كلمة “الله ” على عكس بعض السطحيين الذين ينسبونهم جهلاً إلى يزيد بن معاوية .

يتفرّع الأيزيديون عن الديانة الزارادشتية الأم في بلاد فارس وكافة الشعوب الايرانية القديمة وحتى أطراف الصين، يقدّسون الطاووس الملك الذي يظهر عندنا في الزرابي الشعبية المستوردة من الصين كرمز لكبير الملائكة الذي دخل في الجدال الشهير مع الذات الالهية حسب أغلب الكتب المقدّسة .

يجلّون النار كركن أساسي من مكوّنات الطبيعة الأربعة، يلتزمون بمعظم التعاليم الأخلاقية ويتجنّبون المحرّمات الواردة في الديانات الكبرى، بل ويزيدون عليها في معاملات الزواج وباقي العقود الاجتماعية .

يؤمنون بالنبي ابراهيم وفكرة الأضحية والقرابين، يتبعون التقويم الشمسي ويتّخذون من بعض الأشكال الهندسية رموزاً لوحدة الكون مثل الدائرة التي يعتبرونها أرقى الأشكال وأنهاها حتى أنّ منهم من يشعر بحرج كبير حين يجد نفسه في مكان دائري وهو ما دفع ببعض السفهاء والجهلة للسخرية منهم ونعتهم بعبدة الشيطان …الأمر الذي وضّحه لي زعيمهم الروحي في قراءة معقّدة لقصة الخلق حسب عقيدتهم .

يمجّدون رموزاً كبيرة في التاريخ الأشوري مثل الملك “نبوخذ نصر ” الذي غزا العبرانيين ونكّل بهم في أورشليم الكنعانية، ويحيطون بالتقدير علماء حديث من المسلمين مثل الحسن البصري الذي اعتزله زعيم المتحدّثة واصل بن عطاء في العصر العباسي .

نزلت شخصياً في ديارهم عند جبل سنجار، النقطة الفاصلة بين سوريا وتركيا والعراق، وفوجئت بتشابه بعض المفردات مع الأمازيغية عندنا وحضرت لديهم حفل ختان في طقوس جميلة وليست غريبة عن عاداتنا .

يتميّزون بالكرم وطيب المعشر ومسالمة الآخرين ولا يبشّرون بديانتهم، إذ يعتبرون “الأيزيدي ” هو الذي ولد ايزيديّاً كما لهم وله كبير بالشعر والموسيقى . يخلط بعضهم بينهم وبين المندائيين الصابئة وهم من أتباع النبي يحي، يرتدون الأبيض ويقدّسون الماء كرمز للديمومة والحياة ولعلّ أشهرهم هو الشاعر الكبير عبد الرزاق عبد الواحد.

جمعتني بالأيزيديين صداقات حميمة في العمل والحياة كالكاتب والناقد المسرحي السوري عبدالناصر حسو والفنان الفوتوغرافي الشهير نديم آدو الذي زار تونس وأرّخ لثورتها وهو الذي طلب مني توضيح حقيقة هذه الطائفة الكريمة أمام بعض الأخبار المضلّلة التي طالتهم …وهي تخدم بذلك التكفيريين والقتلة باسم الإسلام .

تجدر الإشارة إلى أنّ الرموز الأيزيدية وألوانها واضحة حتى لدى الشعراء والفنانين الأكراد السنّة، إذ يعتبرونها ميراثاً قوميّاً وذاكرة ثقافية متجذّرة قبل اعتناقهم الإسلام، حتى منهم من يلقي باللائمة على القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي ويتهمه بتجاهل بني قومه لحساب عقيدته .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى