أعاد يعيد..عيدا
اشتريت لنفسي حذاء جديدا ووضعته حارسا عند سريري، فلم يوقظني من نومي، ولم يركض بي نحو مقبرة العائلة. اقتنيت بنطالا “رهيبا”، فلم تكتنز جيوبه بالنقود والمفرقعات، كويت قميصي الأبيض فلم يحترق تحت المكواة، ولم تلوّثه أختي بعصير الرمّان، ولم تعاقبها أمّي، ركبت المراجيح فلم توصلني إلى السماء، ولم تقع نظاراتي الطبية الحمراء.
اشتريت ألعابا فلم يسرقها منّي أحد. نفخت بالونات كثيرة حتّى طقّت بين أصابعي، فلم أغضب، ولم يرعب صوتها أحدا. قرأت الفاتحة مرارا بين شواهد الأموات، فلم ألثغ بحرف السين، ولم يصحح لي أحد منهم أخطائي المزمنة، لكنّهم سمعوني هناك..
أنا على يقين بأنّهم سمعوني، وربما شاهدوني في عليائهم.. أبي وهو يجادل عبدالله الميكانيكي في السياسة دون صراخ، عمّي وهو يتحدث عن مغامراته النسائية في حرب الفيتنام، أمي وهي تتذوّق ما صنعته من حلويات العيد، نكاية في المرض، أختي وهي تأكل من فاكهة الجنّة، دون أن تقترب من شجرة الرمّان.
صحيح أنّ المعايدات فقدت حواس الشمّ، والسمع والبصر واللمس والتذوّق والتوقّع، وصارت ترتكب بالإبهام على جهاز الموبايل، معمّمة على الجميع، مثل صوت الساعة الناطقة، أو ورقة نعي على جدار مقهى شعبي، لكنها لم تضيع أصحابها وتطلع فجأة مثل قوس قزح.
صحيح أنّ العيد صار يأتي كي يذكّرنا بغيابه، وصحيح أنّ الخسائر تنبّهك لما بقي في حوزتك من فرح مؤجل، لكنّ التعب يشي بالمسافات التي قطعناها والأشجار التي رافقتنا على الطريق، ربّ قبلة واحدة -ودون أنياب- تنسيك ألم كل الخناجر التي ودّعتك.
كبرت وكبر معي حذائي، رغم ضيق الاتجاهات، حافظ قميصي على نضارته وحافة كويته، دون أن تجفّ منه بقعة الرمّان، استطال بنطالي واكتنزت جيوبه بالفواتير وحدها، اتسع سريري، وضاقت الأحلام، ثم انتبهت إلى أنّ الأعياد تكبر بدورها، بل قد تشيخ قبلنا، وتصبح غير قادرة على التجوال بين البلاد والعباد وفي الأسواق، فتخلّ بوعودها، تلزم بيوتها، أو تختفي خلف حواجز التفتيش وسحب الدخان، تتيه في المخيمات أو تغطس باحثة عن أصحابها في أعماق البحار، لكنها سوف تأتي، فالله خلق الأعياد كي تأتي.
الدموع التي كانت تجفّفها الأحضان والألعاب والنسائم من فوق الأرجوحة، صارت تخجل من الإطلالة على الغرباء والمرايا، واكتفت بسقاية القلب والأوراق.
رصاص الحقد لا ينام ليلة العيد، فهو منشغل بسرقة الهدايا، إنّه يركض ويعربد في القرى والمدن بأحذية معدنية، وفي جميع الاتجاهات، يرتفع دون مراجيح، يطلق الأصوات دون “زمامير”، يثير دويّا دون حاجة للمفرقعات، يستهدف الجميع دون نظارات طبية، يتحدّث في السياسة وهو يلثغ بكل الحروف، ويشيّع الأموات، فرادى وجماعات، دون أن يزور المقابر، ولا يقرأ الفاتحة على أحد، رصاص الحقد والتطرّف، يلطّخ القمصان بشيء يشبه لون عصير الرمّان.