أغنيات الحرب الأهلية بيان رقم 1 “تبرّأ” منه أصحابه
فيما خفقت قلوبٌ على وَقْع معارك الموت، رقصت ساحاتٌ على أنغام أغنيات تعبوية قد لا تقلّ خطورة عن مفاعيل البيان رقم 1. أغنياتٌ رافقت الحرب (1975-1990) فكانت على شاكلتها خليطاً من تجييش وشرذمة ووجهات نظر. الباحث في البعد البسيكولوجي للأغنية “الوطنية” في خضمّ المعارك، سيجدها دعوةً الى موقفٍ لاحيادي حيال ما يجري، ومبرراً لإطالة عُمر الأزمة. تولد في الحروب أغنياتٌ تلفح الوجدان الشعبي وترفع منسوب الحماسة الى حيث لا تُحمَد العاقبة. تُعبِّئ الجمهور بالرغبة في النصر وكسب الجولة المقبلة. نطرح إشكالية الأغنية “الوطنية” في زمن الحرب، رغم الالتباس العميق الذي يحوطها. الحرب التي أنجبت خراباً وقيماً مشوّهة، أنجبت أيضاً فناً تمترس وعصى على عبور الحدود. نبحث في أغنيات اليمين الممثل بالأحزاب المسيحية واليسار الممثل بالحركة الوطنية، عن دورٍ في حضّ الأفرقاء على استمرار القتل. لازَمَ كلَّ حزب جوٌّ فنيّ حرَّض على التقدّم نحو مزيدٍ من تسجيل الأهداف، ووظِّفت الموسيقى بغرض قَطْع أنفاس الفريسة وإرسال الشباب الى الموت. مارسيل خليفة، الياس الرحباني، خالد الهبر، باسكال صقر، سامي حواط، إيلي شويري وغيرهم، قدّموا أغنياتٍ رسمت شكوكاً حول طبيعتها. هل المراد منها وَقْع المدفع على “الأعداء” وتكريس البُغض ضمن البيت الواحد؟ أيُّ تجربة يرويها الفنانون أعلاه بعد أربعين عاماً على التاريخ المشؤوم، 13 نيسان 1975؟ ماذا عن الإبهام المتعلّق بالمراد غنائياً، وعن الوطن حين يُختَزل بالغناء لفئة وإنكار أخرى؟
الأغنية تعويضاً للهزيمة الثورية وانتشالاً للذات من اليأس
نسأل مارسيل خليفة عن “الأغنية الوطنية” النابعة من براكين الحرب، وهو الذي يرد اسمه في مقدّم مَن غنّوا لخطّ المقاومة وحضّوا على عدم ترك فلسطين وحيدة. يقول إنه لحّن القصائد وألّف الموسيقى لتفادي اليأس وفَقْد الذات، وإنه بنى لنفسه “جنّة” بمعزل عن الإيقاع الحربي الذي كان يدور، فـ”كانت أمي وريتا وجواز السفر وغيرها”. يخبرنا: “تمكنت من استدراج الجمهور الى هذه الجنّة كعشّاق وأرواح شاردة وتيسّر لي بعض الاطمئنان الى أنّ في الحياة ورغم الحروب متّسع من الوقت للاتصال بمن يبحث عن ذاته في ذوات أخرى. عشتُ تجارب مريرة، ومنحتني الموسيقى قوة صمود الأمل، فلم أُهزم داخلياً. صحيح أننا هُزمنا كحركة وطنية، لكنّ الموسيقى حالت دون الانهيار. أستعيد الآن “يا بحريي هيلا هيلا” التي لحّنتها تحية لمعروف سعد، الشهيد الأول في الحرب اللبنانية. لم أخضع للايديولوجيا بالمعنى التقديسي. كنتُ أرفض منذ “وعود من العاصفة” أن يكون للايديولوجيا أي تدخّل في حرية مخيلتي، رغم أنّ لها دوراً في تجربتي العامة كممارسة يومية. “تصبحون على وطن”، “أحمد العربي” وسواهما، أشبه ببداية جديدة من دون أي تغيير في شهوة الصدق والعدالة والأخلاق والفكر والفن ضمن أفق رحب من الحرية الذاتية المطلقة”.
ولكن ماذا عن التهم بالقتل ضمن الأغنية؟ لم تَسْلم أغنياتكَ أيضاً من الزجّ بها في سياق التحفيز على التسلُّح. كيف تردّ؟ “أعمالي لا تميل إلى الكتابة الفورية لأني لا أصمد انسانياً أمام مشهد القتل والوحشية والحروب. لست من المؤمنين بأن للموسيقى والأغنية وظيفة تحريضية لأنّ ثمة آليات وأدوات تعبير مختلفة لإبداء الموقف والاستنكار وتصليب الذات. سأكون قلقاً جداً إذا كتبتُ أغنية تلبية لانفعال قوي من دون أن تتوافر شروط اقتناعي بها فنياً. لا أرى فكرة اليسار في اعتبارها توصيفاً ايديولوجياً أو سياسياً، بل أشعر بأنها موقف إنساني وحضاري داخل الكون. ذهبنا الى مستقبلنا بالقدر الكافي من الحلم والحماسة والصدق، ولم أكن أشعر بالهزيمة حين لم نصل الى المحطة. نغالب المرارة ونصمد لأنّ الهاجس هو الحب”.
الأغنية “النضالية” في ادّعائها النأي عن القتل
قد يكون الفنان الياس الرحباني أحد أبرز مَن انخرط في انتاج “الفن السياسي”، وتورّط في صناعة أغنيات انتصرت لفئة. نعتاده يُشعِّب الحديث ويُكثر الاستطراد حول الفكرة. الرجل الذي قدَّم “عَالصخر بنحفر كتائب” أفرط في التشديد على أنّه لم ينتمِ يوماً الى أحد. يميّز بين “الفجور الغنائي” والعمل المحسوب على طرف. نوافقه على العطاء الجامع الذي قدّمه الرحابنة للوطن، ونعود الى الحديث عن الأغنية الحزبية المُراد منها رفع المعنويات والاستعداد لامتشاق بندقية. “لم يرق القتل مخيّلتي ولم أُرد منه غايةً لأغنية”، يكرر مراراً. لكنكَ لم تحل دون صعود نزعة فئوية ضيقة ضمن الأغنية، وإرفاق مضمونها بحضورٍ طاغٍ للرصاص والمدفعية. يجيب بأنّه غنّى للقوات والكتائب والمرابطون، ولم يجد نفسه التحق بأحد أو فضَّل جهةً على جهة. “الفن أعلى من الاصطفاف، والفنان صاحب رسالة حتى في الحروب، فلا يمكن أن يتورّط بالدم. أردتُ الأغنيات ألا تشبه الصور البشعة. أردتها نضالية تحفّز على الولاء للبنان الواحد”. لعلّه يقصد هذا اللبنان الذي تفتّت بذريعة محاولات توحيده المستمرة.
الأغنية جزءاً من المعركة
ألهمت أغنيات خالد الهبر المقاتلين حدّ الامتلاء بالرغبة في أن يُقدَّم العُمر فداءً لفلسطين والقضايا المحيطة بها. نحدّثه عن مرحلة شكّلت الأغنية فيها دافعاً لئلا يبقى شيءٌ على حاله. لا يسمّيها “نشيداً”. “هي ضدّ النشيد. حالٌ حميمية رومانسية وجدانية وموقفٌ إنساني”. أين الإنسانية المقصودة فيما الحرب قتلت وشوّهت ودمّرت كلّ جمال، معزَّزة بجوٍّ غنائي فرَّق بين الأخوة؟ يجيب بأنّ فنّه لا يمتّ الى الخراب الذي نذكر. “أردتُ فناً ضدّ القتل والذبح على الهوية. وقف اليسار في مواجهة الانعزالية اليمينة، وراحت الأغنية تُوجَّه لمناصرة الشعوب وإعلاء صوتها”. لا يمكن أن تكون “سنزرع في الشياح” مثلاً دعوة الى ضبط حربٍ طاحنة. إنها أغنية تعبوية. ماذا عن “سنحمل البنادق/ نغني للبنادق/ نكتب بالرصاص/ أسماء الشهداء”؟ كيف تُفسَّر؟ أليست إزكاءً لنزعة قتالية؟ يستعيد خالد الهبر ظروفاً أثمرت نوعاً مغايراً من الفنّ الغنائي. يرفض تُهماً بالتحريض على إراقة الدماء. “قدّمتُ فناً يدافع عن الإنسان. حرَّضتُ على المجاهرة بموقفٍ ضدّ الظلم والقهر والاستغلال. بهذا المعنى، كانت الأغنية تحريضية”. لم تكن “كفركلا” و”عيترون” و”كفرشوبا” مثلاً أغنياتٍ حيادية. يجيب بأنّ أغنيات القضية الفلسطينية حرّكت الجمهور في اتجاه حسم الموقف. “أغنيات المقاومة موقفٌ إنساني. لم أُرد فناً يستنسخ بشاعة الحرب ويضيف إليها الموسيقى العذبة. الأغنية جزء من حركة إعلامية شاملة تؤثّر في المتلقي. وجزء من معركة. لا أنكر وظيفتها التعبوية، من غير أن أحمّل نفسي مسؤولية إرسال أحدٍ الى الموت”.
الأغنية تخليداّ للشهيد
تستعيد باسكال صقر نشأتها في “أجواء عائلية وطنية” وتربيتها على رفض وجود “الغريب” على أرض الوطن. صادَقَ والدُها سعيد عقل، ونَهَل من أفكاره تأليه لبنان وتمجيد قوميته وإن أُخذت عليه مآخذ العنصرية. “وصودف أنّ صوتي يساعد، فاتجهت الى الأغنية الوطنية. أنا ابنة الحرب. وظّفتُ صوتي رفضاً لمشاريع التوطين وتحقيق مآرب المؤامرة الكبرى. غنّيتُ للبنان لأني ما أردتُ التضحيات أن تُنسى. في إمكان الأغنية أن تحفظ حقّ الشهيد بالبقاء على قيد الحياة. غنيتُ “وعد يا لبنان” لأنّ بشير الجميّل كان رئيساً للوطن واستُشهد من أجل أن يحيا. أنشدُ لأرضٍ تتوق الى المحبة وإن غُرِّر بها. ليس فناً ذاك الذي يؤجج الفتنة ويؤلّب طرفاً على آخر، ولا الذي يبرر التعصّب. أفاخرُ بأني كنت صوتاً وطنياً في زمنٍ علا فيه وَقْع المدافع. كنتُ مقاوِمة بأرقى وسيلة: الفن”. ختمت بالقول إنّ ما غنّته في “الشرقية” لاقى استحسان “الغربية” وأهلها.
الأغنية استمراراً لاقتناعات أممية
مِن جوّ خالد الهبر وفناني “الحركة الوطنية” وتكتّل اليسار، يقف سامي حواط مدافعاً عن “الأغنية القضية” التي تمجّد فلسطين وتعتبرها أمّ المعارك. في إمكان فنّه أن يختزل البُعد الفلسطيني في تجربة الحرب الأهلية، ويعبّر عن روحٍ شعبية رأت خلاص الإنسان في التحامه بتراب الأرض. ليس حوّاط وحده رائد الفنّ “العروبي” في مرحلة تقاتل المذاهب على استرجاع البوصلة. زياد الرحباني في المقدّمة، وأحمد قعبور، الى الراحل سعد حلاوي عن الحزب التقدمي الاشتراكي. حواط ممن ربطوا العمل الفني بأبعادٍ أممية لم يكترث لاخفاقاتها المتكررة. يتحدّث عن “اقتناعٍ راسخ” ولّد ما عُرف آنذاك بـ”المقاومة الثقافية”. أيُّ الهواجس رافقت الفنان المُنتمي عقائدياً الى اليسار وسياسياً الى “الحركة الوطنية”، وألم يكن هو الآخر طرفاً في التأجيج والعناد وتخوين الآخر؟ يستعيد “قضايا الشعوب” التي بذل من أجلها كلّ عزيمة. “ظلّت الغاية تحرير الشعب من العبودية. غنيتُ “الرأي العام” تحريضاً على الحرية الذاتية. لم أبخس دور السلاح في المعارك، لكنّ النداء الفني لا يصدح دائماً لغايات دموية. كان الهمُّ رفض التقوقع ضمن الدائرة، بعدما ضقنا ذرعاً بالعصبية وأردنا الأغنية مَخرجاً لكلّ هذا. لم يكن السعي الى فنٍّ مقاوِم خياراً سهلاً، فيما لكلٍّ تصنيفه للقضايا ونظرية الضحية والجلاد. فكرة المقاومة معنوية غايتها ألا تُسلَب منا المشيئة. الأغنية آنذاك لاستعادة حق العيش اللائق. هي أيضاً فكرٌ نوَّر الدرب وأيقظ الروح الأسمى فينا”. شعاراتٌ لم تتعرّض للنقد الذاتي ولم توصل الى أفق.
الأغنية كبدلٍ مادي
يقرّ إيلي شويري بأنّ الإنسان تبدّلات، وما العُمر إلا تقويم الأمور وإعادتها الى نصابها. “لكَمْ غيّرتنا التجربة، لكننا لم ننفكّ نفاخر بدورٍ ساهم في إعلاء الحسّ الوطني”. شويري من الذين لم يوفّروا فرصة إلا وكانوا في مقدّم النشطاء الذين راقهم الغناء تحت المدفع. نسأله عن مفهوم الوطنية فيما الأحزاب تقاتلت وعُزلَت المناطق وناسها، وقلما أدّت الأغنية دور “شيخ الصلح” في هاتيك الظلمة. “الانتماء لفريقٍ دون الوطن أجمع مزّقه إرباً. ما كان يكفي لوم الناس آنذاك. فرضت الحرب ظرفها وبات من غير الممكن عزلها عن محيطها. المرء حين يتقدّم في السنّ يدرك أنّه في مكان ما أخطأ. أبلغُ من العمر 76 عاماً ولم أتورّط بالانتماء الى جهة. كتبتُ أغنيات للأحزاب ولم أكتب دعواتٍ الى القتال ولا تحريضاً مذهبياً. الفنان ليس طرفاً في الحرب”. لكنّكَ قدّمتَ لـ”القوات اللبنانية” أغنية “دقّ الخطر عَالبواب” مثلاً ولا يبدو أنّها بريئة أو عفوية. بدت كدعوة للشباب المتحمّس الى التسلُّح، وقتل الإنسان للإنسان الآخر الذي يظنّ أنه المقصود في الأغنية. “لا أوافق”، يردّ. “لا أظنّ أنها كانت مؤذية. أين الكراهية في أغنية ترفض أن يهدد الخطر لبنان؟”. أيُّ خطرٍ تقصد تحديداً؟ يجيب أنه “خطر الحرب”، وأنّ “الفنان يكتب ما يُسأل عنه طالما أنه لا يساوم على مبدأ ولا يحرّض على الأذية. في النهاية علينا تأمين العيش. يشكّل البُعد المادي دافعاً بنسبة سبعين في المئة لكتابة أغنية. إن رفضتُ الكتابة، غيري سيفعل. كتبتُ أغنياتٍ ما عدتُ أذكر عددها، من غير أن يراودني ذنب صناعة محاربين أو قيادة معركة. نحن لسنا سبب الحرب. أردنا لبنان عظيماً فحسب. لا كبش محرقة”.
صحيفة النهار اللبنانية