أفلام الحرب .. شهادات وعناوين لتاريخ لم ينتهِ
لم تُكتب الحكايات كلّها المتعلّقة بالحرب الأهلية اللبنانية. 40 عاماً ليس رقماً بل حياة ممزّقة بين أنماط شتّى من الألم والبؤس والشقاء. أساساً، لم ينجل الغبار كي يُنظر إلى الواقع بهدوء وتأمّل. الواقع اللبناني قاسٍ: هذه حرب لم تنتهِ بعد. هذه مسلمة واضحة المعالم، تُعاش يومياً وبفظاعات كثيرة. لذا، لم تُكتب حكايات الحرب بعد، ومنها حكاية الأفلام اللبنانية المصنوعة عن الحرب وفيها. انعدام الكتابة ـ وهو ليس مطلقاً أبداً ـ جزءٌ من تاريخ السينما في لبنان أصلاً. جزءٌ من مساراتها المتناقضة والمرتبكة. أفلام الحرب الأهلية جزءٌ من تلك الحرب، وغياب نصّها المكتوب ـ باستثناء كتابات جدّية قليلة للغاية ـ جزءٌ من غياب النصّ التاريخي للبلد وحكاياته.
خلفيات
هل يُمكن للكتابة عن أفلام الحرب أن تبدأ من عشية اندلاعها؟ ألم يُقدّم سينمائيون لبنانيون عديدون أفلاماً متنوّعة، إلى بعض الريبورتاجات التلفزيونية، تتناول «فظائع» الحياة اليومية قبل جريمة بوسطة عين الرمانة، ومنها «فظائع» مؤدية إلى الحرب؟ من هناك تبدأ إحدى حكايات «السينما الحربية» إن جاز التعبير. من هناك؟ أي من تلك اللحظة الشاهدة على حراك مارون بغدادي وبرهان علوية وجان شمعون وكريستيان غازي وغيرهم. حراك متمثّل بالبحث عميقاً في بنية المجتمع اللبناني، عبر ناسه ومشاكلهم ويومياتهم، تلك المشاكل واليوميات المؤدية، إلى جانب أسباب أخرى أيضاً، إلى اندلاع الحرب في 13 نيسان 1975. كاميرا تلفزيونية، وريبورتاجات، ولقاءات مباشرة وحيّة مع أناس يعانون أنواعاً عديدة من المآزق الاجتماعية والسياسية والثقافية، تكشف هول المأساة المندلعة حروباً لا تتوقّف.
السينما مرافِقَة ومراقِبَة. قبل بداية الحرب الأهلية، كانت فلسطين طاغية على صناعة مرتبكة. عشية اندلاعها، كان البلد يهوي، فكانت أفلام وأعمال مرايا تعكس بعض ما يجري. مع اندلاعها، تُفرز السينما المرتبكة أفلاماً تقول فصولاً من الانهيار الفظيع في الدم والموت والخراب. يُقال إن «بيروت يا بيروت» (1975) لبغدادي أحد آخر الأفلام الملتقطة بيروت قبل دمارها. يُقال إن «بيروت اللقاء» (1981) لعلوية و «حروب صغيرة» (1982) لبغدادي أيضاً توغّلا في متاهة الحرب وخيباتها وانكساراتها، أو بالأحرى في خيبات السينمائيين نفسيهما ومجايليهما من مخرجين ونقاد وعاملين في الثقافة والفنون وغيرها. اللائحة تطول. لكن أفلاماً كهذه لا تخرج من كونها «شهادة» تقول بعض الواقعيّ. شهادة يعلو المضمون فيها على الشكل، خصوصاً أن الهمّ الأول لجيل السبعينيات، أو ما يُعرف بمخرجي «السينما البديلة» (المنتفضة على التجاريّ ـ الاستهلاكيّ المنبثق من هيمنة الرأسمال والعقل السينمائي المصريين، وعلى نمط إيديولوجي في مقاربة المسألة الفلسطينية)، كامنٌ في القضايا الأساسية، وإن حيكت قصصها عبر نماذج فردية بحتة. يُضاف إلى هؤلاء انغماس مخرجين وثائقيين بالهموم اليومية اللبنانية ـ الفلسطينية، أمثال جوسلين صعب ورندة الشهّال وجان شمعون متعاوناً مع زوجته المخرجة الفلسطينية مي المصريّ.
قبل «العودة» ثانيةً إلى بلاد الاغتراب منتصف ثمانينيات القرن المنصرم (من بين هؤلاء السينمائيين من بقي في بيروت طوال الأعوام الدموية للحرب)، بدا واضحاً أن هذا الجيل منكبٌّ على تفكيك حالة عامة لحظة حدوثها. هذا يدفع إلى استعادة مقولة معروفة ومتداولة: لا يُمكن إنجاز أفلام سينمائية مستوفية شروطها الجمالية المطلوبة شكلاً ومضموناً، طالما أنها تتناول الحرب الأهلية اللبنانية أثناء اندلاعها. إنجازٌ كهذا محتاج إلى مسافة زمنية تؤمّن للسينمائي قدرةً على التأمل الهادئ بما جرى، وبنتائجه. غير أن ما حصل هنا مختلفٌ تماماً: لم تنتهِ الحرب أصلاً في الذكرى الـ 40 لاندلاعها، ولم يكن ممكناً عدم إنجاز أفلام تكشف شيئاً منها، وتقول بعض حكاياتها، وتتوغّل في أسئلتها المختلفة. أميل إلى قناعة مفادها أن سينمائيي «السينما البديلة» أرادوا، قبل مغادرتهم بيروت، أن يُكملوا التزاماتهم الفكرية والثقافية والإنسانية المكتسبة من وعي معرفي خاص بهم (غالبيتهم الساحقة مائلةٌ إلى اليسار بأنواعه، من دون انتساب مباشر في أحزاب معروفة)، وأن يُترجموا بعض رؤيتهم هذه إزاء حالة غير واضحة المعالم، خصوصاً بعد انحراف الحرب ـ إثر «حرب السنتين» ـ عن خطوطها النضالية الأولى، في المعسكرين الأساسيين المتحاربين أحدهما ضد الآخر.
هواجس
لم يستطع هؤلاء أن يقفوا على الحياد، هم الذين يأتون إلى السينما من خلفيات فكرية وإيديولوجية وثقافية تُحتّم عليهم الانخراط في «صفوف الجماهير»، وفي مواجهة اليمين وارتباطاته «المشبوهة». أفلامهم الروائية الطويلة انعكاس لهواجس ألفوها وأرادوها. الصراع الطبقي حاصلٌ في «حروب صغيرة»، لكنه ليس النواة الوحيدة. تجاوز الطائفية والأديان حاضرٌ في «بيروت اللقاء»، لكنه ليس النواة الوحيدة. أفلام وثائقية عديدة مُنجزة في تلك الفترة غاصت في تشعّبات المسائل الاجتماعية ـ الثقافية ـ الحياتية، لكن الحرب ظلّت الواجهة والخلفية. أما السؤال النقدي فيظلّ أخفّ حضوراً: هذه أفلام مرتبكة سينمائياً، ومناضلة درامياً.
«العودة إلى بلاد الاغتراب» لم تُبعد كثيرين من هؤلاء عن الحرب المندلعة في بلدهم. الذهاب إلى مواضيع أوروبية مثلاً يمتلك خصوصية التسلّل إلى السؤال اللبناني. الذين بقوا توزّعت عناوين نتاجاتهم بين أنماط عديدة، معظمها منفضّ عن كل كلام على الحرب وتأثيراتها وأحوالها وحالات الناس المقيمين في جحيمها. هذا موضوع آخر. يعمّ التجاري ـ الاستهلاكي في ذروة الاحتدام العنفيّ، لأنه المنقذ ـ وإن الموقّت ـ من بلاغة الدم في تحطيم بلد وناسه. الأفلام الملتزمة جوانب أساسية من واقع الخراب لا تجذب من يعيش الخراب، ولا من لم يعشه. هذا الأخير رافضٌ لكل ما يُذكّره بالحرب، متناسياً أنه لا يزال لغاية اليوم يعيشها. هذه حالة موجودة أثناء الحرب، ولا تزال موجودة حالياً: لبنانيون كثيرون يتوافدون جماعات جماعات إلى صالات تعرض أفلاماً لبنانية توصف بالكوميدية، لأنها لا تقول شيئاً عن الحرب وعوالمها.
يستحيل اختصار حكاية «سينما الحرب اللبنانية» بمقالة كهذه. ما جرى بعد النهاية المزعومة للحرب في 13 تشرين الأول 1990 على مستوى تحقيق الأفلام المتعلّقة بالحرب محتاج إلى أكثر من قراءة وتعمّق. الأعوام القليلة الفائتة أفضل نموذج عن أفضل ما أُنجز في هذا المجال. الـ «قطيعة» الشبابية مع الحرب لم تحل دون قيام آخرين، من جيل ما بعد الحرب، بتحقيق أفلام منخرطة في البحث في أسئلة الذاكرة والتهجير والصراعات الطائفية والخطف والفقدان إلخ. 15 عاماً (1975 ـ 1990) غنية بعناوين كثيرة لا تزال معلّقة سينمائياً. 25 عاماً (1990 ـ 2015) يزداد فيها غنى العناوين المعلّقة. مراحل عديدة شاهدةٌ على ذهاب سينمائيين لبنانيين إلى الحرب. تماماً كما حصل أثناء اندلاعها. لم يشأ مخرجو أكثر من جيل في مرحلة السلم المنقوص والهشّ أن ينطلقوا في اشتغالاتهم السينمائية من دون أن يصنعوا سينمائياً شيئاً من حساسيتهم وتفكيرهم إزاءها. من سمير حبشي («الإعصار»، 1992) إلى رين متري («لي قبور في هذه الأرض»، 2014)، تنويعات بصرية مختلفة تُساق في الإطار نفسه: الذاكرة؟ لكن أيضاً التأثيرات النفسية والفكرية والثقافية لها على الناس والمجتمع والبيئات المتناحرة فيه. الذاكرة؟ لكن أيضاً المواضيع كلّها الملتبسة والغامضة المعالم والملامح.
هذه ملاحظات عامة نابعة من رغبة في التوقّف قليلاً أمام الحرب في الذكرى الـ 40 لاندلاعها. ملاحظات تحاول أن ترسم شيئاً مما حدث بتبسيط لا يُلغي العمق الثقافي ـ الفني لنتاجات عديدة جاهرت بعدائها للتغييب المعتَمَد في مقاربة التاريخ اللبناني القريب. هذه ملامح لا تُلغي غير المذكور، ولا تشي بشمولية الاستعادة. كأنها مجرّد مقدمة لأبحاث يُفترض بها أن تؤسّس لتوثيق ذاكرة ما جرى ويجري، وذاكرة السينما اللبنانية أيضاً.
صحيفة السفير اللبنانية