
في شوارع حياتنا المزدحمة بالعمل والالتزامات، حيث يرتدي الروتين بدلةَ شرطيّ مرورٍ حازم أكثر ما يكترث إليه هو ألّا تتوقّف حركةُ السيّر، وحيث يعلو ضجيجُ الانشغالات فوق كلّ همسةٍ تدعونا لأن نرمي حقائبنا الثقيلة ونستريح قليلاً. وسط ذلك الزحام بالضبط؛ يأتي أشخاص لا نعرف عنهم أكثر ممّا تشي به عيونهم ورنّاتِ أصواتهم، يلوّحون لنا من بعيد ويدعوننا لنتوقّف قليلاً على حافة الرصيف، وننسى كلّ ما حولنا.
ورغم أنّ التسمية الأنسب التي تختارها اللغة العربيّة لهم هي تسمية “غرباء” إلّا أنّنا قد نجد في بعضهم نوعاً من ألفةِ الأصدقاء القدامى ممّا يجعلهم يحجزون تذاكرهم في ذواكرنا، ويجبروننا على التفكير بسؤال: هل يمكن أن نكون قد التقينا بهم من قبل؟!
أولئك الغرباء يقتطعون جزءاً من مشاعرهم ويقدّمونها إلينا دون أن ينتظروا أن يكون لها صدىً يعودُ إليهم، يريدون فقط أن يجعلوا كلماتهم تخرجُ من أفواههم دون عمليّات حسابيّة أو أوزان، قد يشعرون بأنّ ذلك البَوح المُكتفي بذاته يريحهم لبعض الوقت، لذا نجد بعضهم يسكب على وجوهنا من حزنه علّه يخفّفُ الطوفان الجارف الذي في صدره، البعضُ الآخر يحدّثنا عن مخاوفه كمَن يحاول أن يمحي من مخيّلته كابوساً مقيتاَ، آخرون قد يشاركوننا حيرتهم، يأسهم، أو تخبّط الأحداث في موازين أيّامهم.
هناك فئةُ أخرى من الغرباء تكون كؤوسهم مُترعةٌ بالفضول، تراهم يلاحقون الدقائق في كلّ محادثة مهما كانت قصيرة لكي يحصلوا على أكبر كمٍّ من المعلومات التي لا تفيدهم في شيء لكنّها تجعلهم يُسكتون ذلك الطّفل المُلحّ الذي يجلسُ في رؤوسهم ويمنعهم من التّفكير في أيّ شيء آخر.
الفئة التي أراها الأبقى أثراً هي فئة أولئك الغرباء الذين يُضيئون مع كلّ كلمة يلفظونها، مَن يريدون أن يعكسوا صورة مراياهم الخاصّة عن الحياة والمستقبل والأحلام في ذهنِ كلّ مَن يرونه، فيمنحونه بذلك بعضاً من ضيائهم. تراهم ينفضون غبار التكلّف والنمطيّة عن الأحاديث التي يشاركون بها ويجعلون منها أحاديث فريدةً صُنِعَت لتوّها، يحاولون أن يرسموا لنا قصص حياتهم دون أن يحتفظوا بالألوان الدّاكنة أو يكتفوا باستخدام الألوان المشرقة فقط، هم يعرفون جيّداً قيمةَ تلك الألوان ولا يشعرون بأنّ هنالك مشكلة في أن يخبروا أيّاً كان بالأثر الذي أحدثتهُ في لوحاتهم.
إنّ تلك التلقائية الرّقيقة وذلك الصدق الذي لا يَشعرُ بأنّ هنالك شيء يمكن أن يهدّد بقاءه؛ هما أكثر ما يجعل الأحاديث مع أولئك الأشخاص تنهمر رويداً رويداً لتتشرّبها أفئدتنا بكلّ راحة وهدوء.
صحيح أنّ كلّ أولئك الغرباء – على اختلاف أنواعهم – قد يكونون مجرّد عابرين مؤقتين في رحلاتنا المستمرّة، لكنّ قدرتهم على أن يصنعوا من أكثر اللحظات عاديّةً وروتينيّة قلادةً برّاقة نحتفظ بها طويلاً هي التي تجعلُ من فكرة الحديث مع أحد لا نعرفه فكرة جذّابة حقّاَ، وتستحقّ التجربة مراراً وتكراراً.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة