أكذوبة الرأي العامّ
يمثّل الرأي العامّ الإرادة السياسيّة العامّة، التي تتّخذ من النقاش العمومي والاستدلال العمومي لبناتها الأساسيّة، فأكبر الدّول اليوم تطبيقاً للديمقراطية، هي أكثرها تأثّراً بالرأي العامّ، وامتثالاً للإرادة الشعبية العامّة. ومع التطوّر الذي عرفته صناعة سبر الآراء، تحوَّل الرأي العامّ إلى منبع استدلال ومُحاجَجَة في المجتمعات الغربيّة، بل صار يُنظَر إليه وكأنّه قلب الديمقراطية النابض، وعلى أنّه حقيقة موضوعيّة يُمكن لمؤسّسات سبر الآراء اكتشافها وإخراجها للعلن.
يُشكِّك عالِم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو، في وجود مقولة اسمها الرأي العامّ من الأساس، وذلك في مقالة له بعنوان “الرأي العامّ غير موجود” (نُشرت العام 1973 في مجلّة “الأزمنة الحديثة” Les temps modernes، العدد 318) حيث عزم على تفكيك ثلاثة أسئلة جوهرية، لا يمكننا بحسبه أن نتقدّم في بلورة نقاش حول الرأي العامّ من دون الحسم فيها. وهي:
•هل كلّ الناس بمقدورهم تشكيل رأي؟
•هل كلّ الآراء متساوية من حيث القيمة؟
•هل إنّ طَرْح السؤال نفسه على جميع الناس، يعني أنّ هناك إجماعاً حول الأسئلة التي تستحقّ الطَّرح؟ وأنّ الناس يعانون المشكلات نفسها التي تعالجها الأسئلة؟
لا يمكن إلّا لجاحدٍ، بحسب بيار بورديو في مقالته المذكورة، أن ينكر أنّ عمليّة استطلاع الآراء تنطلق من أسئلة متحيّزة ، على أنّ الإجابة تأتي متضمّنة في الشكل الذي يتمّ به طرح السؤال، فإذا ما اجتزنا، على سبيل المثال، الخاصّية الأساسية لبناء استمارة ،”التي تلتزم ببسط كلّ الحظوظ المُمكِنة، لكلّ الأجوبة المُمكِنة، فإنّه يتمّ تجاهل خيارات أجوبة وأسئلة مُمكِنة ذات علاقة بالأسئلة والأجوبة المقترَحة، أو يتمّ اقتراح الخيارات عينها مرّات عديدة بصِيَغ متعدّدة”.
وستتّضح لنا مسألة التحيّز والإدماج اللتَيْن يقوم عليهما الرأي العامّ، بشكلٍ جليّ، إذا ما علمنا أنّ القضايا التي تتكفل بها مؤسّسات متخصّصة في عملية سبر الآراء تفرض عليها بشكل قوي، نتيجة ارتباط هذه الآراء بالسيطرة التي يفرضها الطلب الاجتماعي، إذ لا يمكن مثلاً لمؤسّسةٍ ما أن تتبّنى قضيّة التعليم إلّا إذا كانت هذه الأخيرة تشكِّل مشكلةً سياسية.
هذا ما أدّى ببيار بورديو إلى القول إنّ “عمليّات سبر الآراء في الوقت الحالي هي أداة للعمل السياسي”، وإنّ الوظيفة الأساسية التي وُجدت من أجلها هي ترسيخ وَهم زائف يروِّج لوجود مقولة اسمها الرأي العامّ، يُعبِّر بشكل موضوعي عن مختلف أراء الأفراد. بل إنّ ما تروِّج له وسائل الإعلام من نسب مئويّة (ستّون بالمئة من الفرنسيّين يؤيّدون كذا أو كذا) لا تعدو أن تكون فقّاعة مُصطنَعة، ترمي بالدرجة الأولى إلى التستّر عن طريق هذه النِّسب المئوية: “معلومٌ أنّ كلّ ممارسة للقوّة، تحمل معها خطاباً يسعى إلى إضفاء الشرعيّة على مَن يُمارِس هذه القوّة، بل يُمكِن أن نُقِرّ أنّ خصوصيّة كل ميزان قوى كيفما كان، تتجلّى في كونه لا يمتلك هذه القوّة بشكل مطلق، اللّهمّ إذا ما ظهر على ذلك الشكل، وخلاصة القول، حتى نتكلّم بوضوح، فرجل السياسة هو مَن يقول إنّ الله معنا، ويُقابِل هذا القول في أيامنا هذه: الرأي العامّ معنا. هو ذا الأثر الجوهري الذي ينتج عن عملية سبر الآراء: تشكيل فكرة تنطلق من أنّ الرأي العامّ موجود وأنّ هناك إجماعاً حوله، الغاية إذن، إضفاء شرعية سياسيّة معيّنة حوله، ودعم موازين القوى التي تشكّلها أو تتيح لها إمكانات الوجود”.
تنطلق معاهد سبر الآراء بحسب بيار بورديو من فكرة واهِمة، مفادها أنّ كلّ الناس بإمكانهم بلورة رأي، وأنّ بمقدورهم الإجابة عن الأسئلة بشكلٍ مُلائم ومتساوٍ، وتركيب طابعها السياسي وإدراكه، جاهلةً بذلك أنّ الناس ينتجون آراءهم في ارتباط وثيق وعميق بروح طبقاتهم، أو بمنظومة القيَم الضمنيّة التي ترعرعوا داخلها، والتي ترسَّخت في لاوعيهم منذ الطفولة. يُمكن لعملية سبر الآراء أن تكون أكثر ملامسة للواقع، “إذا ما أتحنا للناس المسوّغات التي تجعلهم يتموقعون، بالكيفيّة نفسها التي يتموقعون بها في الواقع اليومي، بمعنى أنّه عوض أن نقول لهم: هناك مَن يؤيّد تحديد النسل، ومَن يُعارضه، فماذا عنكم ؟…”، نعرض مسلسلاً من المواقف الصريحة، لجماعات تتوفّر على قدرة بناء الآراء و نشرها، بشكلٍ يتيح للناس إمكانية التموقع، بحسب الإجابات المشكَّلة مُسبقاً.
إنّ تشكيل رأي سياسي، لدى عامّة الناس، ليس بالأمر اليسير أو المُتاح كما يروِّج لذلك مستثمرو الرأي العامّ، وهذا راجع لإيمانهم بتصوّرٍ واهِم، مفاده أنّ كلّ مواطن قادر على فهم المشهد الإيديولوجي للقضايا والولاءات السياسية، وبالتالي فهو قادر على تشكيل موقف معقول، وتأسيس سلوك سياسي انطلاقاً من قائمة المعلومات التي يتوفّر عليها إزاء القضايا السياسية الرئيسة، إذا كان هذا التصوّر، الذي يروِّج له مُستثمِرو الرأي العامّ، له ما يفنّده في الواقع الاجتماعي والسياسي اليومي لمواطنين مُستنيرين ينتمون إلى مجتمعات قطعت أشواطاً كبرى في مسيرة إحقاق الديمقراطية، فماذا يمكن أن نقول عن مجتمعات مثل التي ننتمي إليها، حيث الأمّية، والجهل مقدَّساً كان أم مؤسَّساً يرخيان بظلالهما على جلّ الأفراد حتّى لا أقول المواطنين؟
إنّ الإنسان العربي لا يزال رازحاً تحت نير التشظّي والانقسام بين ذاتَين: ذات مواطنين وذات رعايا، وهذا راجع لكونه ما زال يعيش ضمن بنيات راكدة تقليدية مُتهالِكة من حيث العمق، حديثة متطوّرة من حيت السطح. إنّ هذا الانقسام والتشظّي ما برح يعمّ كلّ مكوّنات المجتمعات العربية المُعاصِرة، التي تُهمِّش الثقافة العلميّة، وتفتح المجال أمام الثقافات البدائيّة، التي تعتمد العصبيات والمذهبيات وأساطيرها، والسحر وتقنياته، وتطمس أدنى بوادر الانتقال التطوّري من ثقافة تقوم على تضامن تكراري انطوائي إلى أخرى تقوم على تضامن إبداعي انفتاحي.
هذا التعايش بين التراث والحداثة، التتريث (تجديد التراث) والتحديث، البداوة والحضارة، أدّى إلى إنتاج بنى مركَّبة متناقضة تصل وتفصل الماضي عن الحاضر، وتعمل على إنجاب ثقافة بدوية انطوائية تعمد إلى التتريث وإخضاع المتعدّد للواحد الأوحد مقابل تحقيق الرعاية والحماية، وتجنّب النَّبذ والاستبعاد والإقصاء. و بالتالي سرعان ما تتحوّل هذه البُنيات إلى معتقلات ذاتية يرتضيها الفرد لنفسه حفاظاً على أمنه ومنبع رزقه.
وعلى الرّغم من أنّ الدول العربية تعرف تكنولوجيا متقدّمة في نُظم المعلومات والتعامل، وتشهد هياكل تنظيمية اقتصادية ومجتمعية (نوادٍ ثقافية، جمعيات، أحزاب ونقابات مهنيّة…) توحي بالتحديث، إلّا أنّ هذه التنظيمات والهياكل تبقى جوفاء عمياء إذا لم ينعشها أفراد. وهؤلاء الأفراد قادة وأتباع، كيف يفكّرون، كيف يتصرّفون، كيف يتخاطبون إذا كانوا قد نشأوا في أحضان ثقافة تقليديّة؟ ألا يؤدّي ذلك إلى تحويل فرع الحزب والنقابة والجمعية وسائر التنظيمات الحديثة في المدينة إلى قبيلة مصغّرة تُنتج ثقافة الخضوع والانقياد والتوسل؟
وعلى الرّغم من أنّ القائمين على الحُكم في هذه الدّول لا يبرحون ينادون بحُكم المؤسّسات وحُكم القانون ونُظم الإدارة الحديثة إلّا أنّهم يتصرّفون وفق منطق “بدولوجي“، فلا تخلو أيّ إدارة عربية من هياكل تنظيمية رسمية تنبع من الأسس العلمية والقانونية، إلّا أنّ القوى المُحرِّكة لها لا زالت تنبع من الهياكل التقليدية القائمة على العائلة والطائفة والعشيرة.
لا سبيل أمام الإنسان العربي، من أجل تخطّي هذه المحنة، سوى تبنّي مؤسّسة العقل ومؤسّسة العِلم، حتّى يجد نفسه أمام فرصة حقيقية لتنوير ذاته بوعيه، ولإنتاج حداثته؛ وإلّا سيظل لصيقاً بمؤسّسة البداوة وبمؤسّسة إفتاء الأحاديث، وما ينجرّ عنها من استغلاق سياسي يستبدل المتعدّد بالواحد الأوحد.
معيار الحداثة السياسية إذن، كما سبق وأعلن المحلّل النفسي مصطفى صفوان في كتابه “لماذا العرب ليسوا أحراراً”، هو الانتقال من حزب القبيلة إلى حزب العلمانية التعدّدية، ويقصد بالعلمانية هنا إحداث قطيعة كاملة مع تلك الأشكال البدوية التقليدية للتربية والمتوارثة عن الماضي، ولا يقصد بها تلك العقيدة الوهمية، التي دفعت الشيوعية ثمناً غالياً لاعتناقها في فترة تاريخية معيّنة، والمتمثّلة في « مجتمع كلّي الإلحاد»، يقصد بحزب العلمانية التعدّدية أيضاً، ذلك الكيان المتشرّب لقيَم أثينا اليونان، حيث قامت أوّل ديمقراطية معروفة في الغرب ومنعت تجديد ولاية الحاكِم الأكثر شعبية لدى الجماهير على الرّغم من تفانيه في خدمتها حتّى لا يُصاب بمرض جوع التسلّط، وذلك بفتح المجال لعقلانية عملية تَنسف الديكورات والكليشيهات السياسية السطحية، وتُطوِّر البُنية الحزبية ذات البناء القبلي والشكل الحضاري، وذلك انطلاقاً من مدارس وجامعات تفصل الموهوم عن المعلوم والبداوات الحزبية عن الحضارات الحزبية بلا تدخّلات فقهية متحجّرة ولا مناورات تضليلية.
يقتضي تحرير الإنسان العربي من بنى الاستبداد والهدر الكياني إذن، قيام ثورة على صعيد الفكر الإنساني، ثورة تسعى إلى إطلاق طاقات الإنسان الحية واستثمار قدراته، ومن أجل ذلك لا بدّ من تحرير المبادرة والإرادة الإنسانية من كلّ قيود التوارث الراكد.
*أستاذ/ باحث – المغرب
نشرة أفق (تصدر عن مؤسسة الفكر العربي)