ألبير كامو… الكاتب «المتمرّد» الذي استشرف «طاعون» الأزمنة الحديثة
أهم روايات ألبير كامو التي نُشرت للمرة الأولى بالفرنسية عام 1947 أصبحت كتاباً لزمان طاعون الكورونا هذا. تلقف القرّاء نسخها، وباعت خلال شهر آذار (مارس) الماضي في اليابان وحده أكثر مما باعته في السنوات الثلاثين الماضية. لكنّ رغم قدرتها الهائلة على لمس المشاعر الإنسانيّة في أجواء العزلة والحصار، وتقديم مقاربة أدبيّة مبهرة لاستجابات البشر في مواجهة الأقدار المحتمّة، إلّا أنّ الرواية غارقة في عنصريّة بغيضة تجاه السكان العرب لمدينة وهران الجزائريّة ــ مسرح الأحداث ــ فكأنهم ليسوا بشراً، ولا موجودين، ولا شركاء في مواجهة الكوارث والجوائح الكبرى. لقد حان اليوم ــ مع صعود نجم رواية «الطاعون» مجدّداً ــ أن نُسقط صنم كامو ككاتب ثوريّ، ونعيد إدراجه في مكانه المناسب: مثقّف فرنسي برجوازيّ آخر، تقرأ أعماله كجزء لا يتجزّأ من قراءتنا لإنتاجات الثقافة الإمبرياليّة.
استعادت فرنسا نجمها ألبير كامو (1913-1960) هذا الربيع كما لم تستعِده من قبل. إذ تمرّ هذا العام الذكرى الستّون لغياب أحد أهم الذين كتبوا فلسفة العبث أدباً في أجواء منتصف القرن العشرين المأساوية، ورئيس تحرير «الكفاح» صحيفة المقاومة الفرنسيّة إبان الاحتلال الألماني لباريس بداية الأربعينيّات. رحل مبكراً عن 46 عاماً إثر حادث سير غامض برفقة ناشره ميشال غاليمار، بينما كان في قمّة عطائه الفكري والأدبي، وبعد ثلاث سنوات على تطويبه أديباً عالمياً من قِبل المؤسّسة الثقافيّة الغربيّة بمنحه نوبل للآداب (1957).
لكن ذكرى الغياب وما أُعدّ لها من الأنشطة الثقافيّة والفنيّة توارت وراء الاستعادة غير المسبوقة لروايته الأهم والأكثر نجاحاً «الطاعون» (1947) فور تفشّي وباء فيروس كورونا وإجراءات العزل والإغلاق الاستثنائي التي فرضتها فرنسا وعديد من الدول شرقاً وغرباً في محاولة لاحتوائه. تهافت كثيرون للحصول على نسخة من الرواية كما لو كانت مصل وقاية من كوفيد 19، أو على الأقل للتحصّن من التأثيرات السايكولوجيّة التي فرضها العزل على الملايين. حتى إنّ صحيفة «لو فيغارو» اليمينيّة المعروفة خصّصت افتتاحية لها للتساؤل مع القرّاء: «لماذا نعيد قراءة رواية «الطاعون»؟»، وفي فرنسا في ما يتعلّق بأعمال كامو هي دائماً إعادة قراءة. كما كتب أحدهم في مجلّة « لو بوان» عن «الطاعون» بأنها «كنسخة من دليل نجاة للروح في زمان الوباء». ووصفت «لو نوفيل أوبسيرفاتور» الرواية بأنها «إنجيل لأزمنة الشقاء التي نعيشها» وكاتبها بـ «العرّاف الذي رأى كورونا، فكأنه توقّع كل ما يحدث معنا خطوة بخطوة».
ظاهرة «الطاعون» الرواية ــــ التي تسرد وقائع متخيّلة عن انتشار الوباء الأسود القاتل بدايات الأربعينيات في مدينة وهران الجزائريّة (المحتلّة حينها) وكيف تعامل سكانها من المستوطنين الأوروبيّين مع حالة الإغلاق التام التي فُرضت على المدينة ــــ امتدّت أبعد بكثير من فرنسا إلى معظم مجتمعات الغرب، إذ تضاعفت مبيعات الرواية في المملكة المتّحدة بأكثر من 1000% مقارنة بالسنة الماضية. وقال باعة الكتب في اليابان بأنّ الطلب عليها في شهر آذار (مارس) الماضي وحده فاق مبيعاتها المتراكمة لأكثر من ثلاثين عاماً الماضية، بينما تكرّر انقطاع المعروض منها في متاجر الكتب الإلكترونيّة ـــ مثل «أمازون» ــــ عدّة مرات، ما دفع الناشر إلى إعادة طبعها أكثر من مرّة.
بالطبع، فإنّ قراءة رواية كامو لا تحمي من القدر، فهي بداية أقلّ بـ 100 صفحة من الـ 350 صفحة التي قد توقف رصاصة من الوصول إلى القلب، كما تَعلّم الجمهوريّون الإسبان بالتجربة أثناء الحرب الأهليّة (1936 ـــــ 1939). وهي رغم رسمها الدقيق لكثير من مشاعر الاغتراب الإنساني والعزلة والإحساس بالعجز أمام الكوارث الكبرى، إلّا أنّ مثقفين كثراً معاصرين له اعتبروها هروباً جباناً من التاريخ والأسئلة السياسيّة الشائكة المطروحة على الفرنسيين ـــ حينها ــــ نحو مساحة غير مؤدلجة في مواجهة عدو ليس له وجه البشر. وفوق ذاك كلّه، فإنّ رموز «الطاعون» ومجازها تترك الباب مفتوحاً لتفهّم الرماديّة أو حتى انعدام الموقف في مواجهة العدو والمحتل. إذ يعتقد كثيرون بأن كامو كتب طاعون وهران وفي ذهنه حكاية احتلال باريس وسلطة فيشي، وأنّه امتنع عن تقديم محاضرات أخلاقيّة فيها لأنّه رغم انخراطه ــــ كمثقّف ـــ في العمل المقاوم، كان يرى أن البشر حين يخضعون لظروف عيش استثنائيّة قاهرة، قلّما يتمكّنون من التفريق الصريح بين الخير والشرّ، والوطنيّة والخيانة، فتستعصي عليهم التصنيفات وتختلط النوايا الحسنة بالأعمال السيئة، والنوايا السيئة بالأعمال الحسنة، أو كلا نوعي العمل من دون نيّات من حيث المبدأ.
موقف رمادي
لعلّ الانتقادات التي وُجهت إلى الرواية فترة صدورها هي ما يراه القرّاء المعاصرون تحديداً مصدر قوّتها. فالطاعون ليست رواية في ألف صفحة مثل «الحرب والسلام» لتولستوي، كي تبدو مهمة مستحيلة أمام الجيل الجديد. كما أنّ بُعدها عن الخطاب الأخلاقي المباشر المرتبط بظرف سياسي ـ تاريخي محدّد مقابل التوصيف الدقيق للوقائع في وقت الوباء، منحها مصداقيّة عابرة للأزمنة، علماً أنّ كامو قرأ عشرات الكتب عن تاريخ الأوبئة تحضيراً لكتابة روايته، فيما بدا انحيازه للرّماديّة مناسباً في سياق مزاج البرجوازيّة المعاصرة التي تفضّل بحكم التكوين تجنّب المواقف الصريحة في الحروب الثقافيّة المفتوحة: الفاشيّة والعنصريّة العرقيّة والبريكاريا (الأُجراء بعقود مؤقتة أو صفريّة) وهي تكتفي بإظهار التضامن الشكلي مع الضحايا من دون أيّ رغبة في دفع ثمن لتصحيح الانتهاكات جذرياً.
لكن لماذا وهران في الجزائر تحديداً؟ من المعروف أن كامو ولد في الجزائر لوالدين من المستوطنين الفرنسيين عندما كانت تلك البلاد تُعتبر من وجهة نظر باريس وبحكم القوّة المحض فرنسا جنوبيّة منذ عام 1830. وقد تركت أجواء الشمس الساطعة والشواطئ الممتدة وانعدام الأحداث حدّ الملل فيها، أصداءً لا تخفى في معظم أعماله الروائيّة. ومع ذلك، فإنّ «الطاعون» تتجاهل تماماً الجزائريين أصحاب البلاد الأصليين فكأنهم غير موجودين إطلاقاً، ولا تشير بأيّ شكل إلى أن أبطال الرواية مستوطنون أوروبيون في أرض محتلّة، فيما ثيمة روايته عن مواجهة السكّان للاحتلال، العدّو المشترك لباريس. وبدلاً من التضامن الإنساني المفترض والعابر للهويّات والطّبقات للتعامل مع مترتّبات الكارثة كما يُفهم من قراءة سطحيّة للرواية، فإن كامو في الحقيقة يقصر مفهوم البشر على المستوطنين ذوي البشرة البيضاء الذين يلعبون حصراً كل الأدوار أبطالاً وضحايا وكومبارس، مع أنّ تسعة أعشار سكان المدينة التي عرفها كامو خلال الأربعينيات بالفعل كانوا من الجزائريين. وعلى الرّغم من توظيفه وباء الطاعون لتمثيل الاحتلال الأجنبيّ مجازاً معمّماً لكل عدوان غاشم، فإنّه تناسى كون أبطال روايته كانوا هم طاعوناً أسود مسّ الجزائر.
هذا العمى الاختياري الذي مارسه كامو تجاه ضحايا الإمبرياليّة والرأسماليّة لاقى هوى عند البرجوازيّة الفرنسيّة، فباعت روايته أكثر من 100 ألف نسخة في عامها الأوّل، رغم أن الكتب كانت حينها نوعاً من ترف لا يقدر عليه معظم الفرنسيين العاديين. وهو استمرّ خلال عقد الخمسينيات ـ بعدما صعد إلى قمّة المجد الأدبيّ ـ في تبنّي مواقف رماديّة باهتة تجاه مسألة استقلال الجزائر التي كانت في قلب الجدل السياسي في فرنسا وقتها، فكان يدعو إلى نوع من تعايش سلمي بين المستوطنين والسكان الأصليين في ظلّ ديمقراطيّة شكليّة على النظام الغربي، وعادى جبهة التحرير الجزائريّة بحجّة رفضه العنف، وأصرّ حتى اللحظة الأخيرة على أنّه ــــ وهو سليل المستوطنين ـــ يمتلك حقاً طبيعياً بالجزائر تماماً كأهلها لا أقلّ.
بكلّ حرفيته الأدبيّة التي لا ينكرها أحد وطلته الغامضة الوسيمة التي سحرت الباريسيات، لم يكن كامو ثوريّاً راديكالياً كما حاول كثيرون تصويره، بل محافظاً رجعيّاً كما يليق ببرجوازي فرنسيّ رثّ محدث نعمة. هو سقط نهائياً في لعبة النخبة الفرنسيّة بعدما توّج بنوبل للآداب، فاستمرأ الأضواء والمتع والادّعاء. في موسم إسقاط تماثيل العصور الإمبرياليّة، ليس هنالك من وقت أفضل لنسقط صنم كامو ككاتب ثوريّ، ونعيد إدراج الرجل في مكانه المناسب: مثقّفاً فرنسيّاً برجوازياً آخر، أعماله جزء لا يتجزأ من إنتاجات الثقافة الإمبرياليّة الأوروبيّة البغيضة، ونقرأ «الطاعون» ــ روايته الأثيرة ـــ كما هي بالفعل: ممارسة واعية للعمى الاختياريّ عن المظالم الفادحة، فكأننا نقرأ رواية لكاتب إسرائيليّ عن وقائع مرحلة كوفيد – 19 كما عاشها المستوطنون في واحدة من مدن فلسطين المحتلة هذا العام من دون أيّ إشارة إلى الاحتلال العابر أو للسكان الأصليين.
هل كانت المخابرات وراء موته؟
بعد ستين عاماً على غياب كامو، لم يبقَ ما يُقال عنه شخصاً أو سيرة أو نصوصاً. فوجهه مألوف حتى للأجيال الجديدة، وسيرته معروفة لكثيرين كنجم للمقاومة الفرنسيّة وفيلسوف للعبث وفائز بنوبل للآداب كما بموته التراجيدي المبكّر، ورواياته، بخاصة «الغريب» (1942) و«الطاعون» (1947)، وكتاباته الفلسفيّة حُلّلت حتى الثّمالة، وقتلت بحثاً وتفكيكاً وتأويلاً. لكن الكاتب والشاعر الإيطالي جيوفانّي كاتيللي له رأي آخر، إذ لا يتوقّف عن إثارة الصخب بشأن غموض الحادثة (4 كانون الثاني/ يناير 1960) التي تسبّبت في مقتل الروائي النجم رابطاً إياها بمؤامرة تليق بقصص الجاسوسيّة في فترة الحرب الباردة، وموجّهاً أصابع الاتهام إلى الأجهزة الأمنيّة السوفياتيّة بتدبير عملية اغتياله بالتواطؤ مع جهات يمينيّة في الأجهزة الأمنيّة الفرنسيّة.
كان كامو قد قُتل على الفور إثر تعرضه لكسر في الرقبة وتهتك في الجمجمة نتيجة ارتطام سيارة الـ «فاسل فيغا» التي كان يستقلّها برفقة ناشره ميشال غاليمار (قضى لاحقاً متأثراً بجراحه) بشجرة على الطريق الجنوب الشرقي نحو باريس. تلك السيارة – وهي من ماركة فرنسيّة للسيارات الرياضيّة الفاخرة اشتهرت في الخمسينيّات على نسق «أوستن مارتن» البريطانيّة – تعرّضت عجلاتها، بحسب سرديّة كاتيللي دائماً، لعبث عملاء الـ «كي. جي. بي» (KGB)، ما تسبّب في فقدان قائدها غاليمار السّيطرة. وللحقيقة، فإنّ الحادثة غير اعتياديّة وفق هيربرت لوتمان كاتب سيرة كامو (نُشرت في 1978)، إذ ينقل عن المحققين استغرابهم وقوع مثل تلك الحادثة القاتلة لسيارة حديثة على طريق مستقيم مستو، عرضه 30 قدماً في وقت لم يكن يشهد أيّ كثافة تُذكر في حركة السير.
ظهرت ادّعاءات كاتيللي أول مرّة في صحيفة محليّة إيطاليّة عام 2011، وما لبثت أن أثارت اهتمام كثيرين من المعنيين بكامو وأعماله لا سيما من هواة المؤامرات والغموض. اهتمام استثنائي استثمره الشاعر الإيطالي بتوثيق الحادثة/ المؤامرة والأجواء المحيطة بها في كتاب صدر بداية بالإيطاليّة بعنوان «يجب أن يموت كامو»، قبل أن تصدر منه نسخة فرنسيّة محدثة وموسعة في إطار الذكرى الستين لغياب كامو بعنوان أقلّ طموحاً «موت كامو» (2020)، على أن تصدر النسخة الإنكليزيّة بالعنوان نفسه في شهر تشرين الأوّل (أكتوبر) المقبل. ويبدو من ردود الفعل في الصحف الباريسية أن القراء الفرنسيين ــ رغم إقبالهم على الكتاب ـــ كانوا أقل اقتناعاً بسرديّة المؤامرة من رفاقهم الإيطاليين، إذ لمّح عدّة نقاد إلى محاولة رديئة للتكسّب من وراء مأساة الروائي الراحل، ودبّجت مقالات عدّة تسجّل نقاط ضعف قاتلة في ما يدّعيه كاتيللي.
«منذ اكتشافي للأعمال الأدبيّة العظيمة لكامو، ومن تتبّعي لمدى انخراطه في السياسة، ساورتني الشكوك دوماً بأن موته المبكّر لم يكن مجرّد حادث سير آخر» يقول كاتيللي. كان كامو بالفعل معروفاً بمواقفه المعاديّة للشيوعيّة السوفياتيّة وقريباً من اليساريين الفوضويين، وقد جاءت حادثة مقتله قبل أشهر قليلة من زيارة رسميّة لفرنسا كان نيكيتا خروتشوف السكرتير الأوّل للحزب الشيوعي السوفياتيّ الحاكم (إبريل 1960) يعتزم القيام بها. وتوجست موسكو على ما يبدو بأن تتحوّل على يد كامو تحديداً ـــ وهو حينها النجم العالميّ بعد تطويبه بنوبل للآداب ـــــ إلى مهرجان عالميّ معادٍ للسوفيات بمعرفة اعلام المخابرات المركزيّة الأميركيّة إذا اختار كما كان متوقعاً أن يدين علناً خروتشوف والنظام السوفياتيّ.
كاتيللي التقط بداية الخيط بشأن المؤامرة المزعومة من مطالعته ليوميات جان سابرانا المترجم التشيكي المتخصص في نقل الشعر الأميركي إلى التشيكيّة، إذ يرد فيها ما مفاده أن رجلاً واسع الاطلاع ذا علاقات واسعة (لم يذكر اسمه) أخبر سابرانا (عام 1980) بأن ديميتري شيبلوف، وهو من أركان النظام السوفياتيّ الزائل وتولّى منصب وزير الخارجيّة لفترة وجيزة، أصدر أمراً بتصفية كامو بعدما كتب الأخير نقداً لاذعاً للاتحاد السوفياتي في مقالة له نشرتها إحدى الصحف الفرنسيّة (1957). الخبراء في الشأن السوفياتي استبعدوا صحّة رواية سابرانا، إذ أن شيبلوف كان ذلك العام تحديداً المعارض الوحيد لخروتشوف في اللجنة المركزيّة للحزب الشيوعيّ، ما تسبّب في غضب الزعيم عليه لينتهي في مناصب شكليّة متدنيّة، موظفاً في الأرشيف، من دون أن يمتلك أيّ تأثير تنفيذي على الأجهزة الأمنيّة السوفياتيّة ويصدر أمراً بتدبير اغتيال نجم عالميّ مثل كامو. وقد نُشرت مذكرات شيبلوف بعد سنوات قليلة من وفاته عام 1995 (ترجمت إلى الإنكليزيّة في 2001) من دون أدنى إشارة لكامو.
لكن كاتيللي لم ييأس. إذ سرعان ما وجد مصدراً آخر يؤكّد مزاعمه بشأن حادثة مدبرة أودت بكامو ضمّنه النسخة المحدّثة من كتابه. كان ذلك جوليانو سبزّالي المحامي الإيطالي الذي بادر إلى التواصل معه عام 2013 بعد اطّلاعه على النسخة الإيطاليّة من «يجب أن يموت كامو» ليخبره بأن صديقه المحامي الفرنسي الشهير جاك فيرجيس – الذي دافع عن المناضلين الجزائريين المتّهمين بتنفيذ أعمال إرهابيّة ضد المصالح الفرنسيّة قبل الاستقلال (1962) وتعرّض للتعذيب من قبل سلطات باريس – أعلمه قبل وفاته حينئذ بأنّ «الحادثة رتّبها عملاء للمخابرات السوفياتيّة بالتواطؤ مع جهات في المخابرات الفرنسيّة». لكن هذا المصدر الجديد لم يقنع كثيرين ومنهم أليسون فينش أستاذة الأدب الفرنسي في «كامبريدج» في بريطانيا التي كتبت بأنه «يكفي استعراض الأسماء التي تروّج لنظريّة الحادثة المدبّرة كي تستبعدها على الفور. فهم متعاطو خيال أدبي: بول أوستر الروائي والمخرج السينمائي الذي كتب مقدّمة النسخة الإنكليزيّة من «موت كامو»، ومثقف تشيكي تعرّضت عائلته للتنكيل على أيدي النظام الشيوعي هو جان سابرانا، ومحام مثير للجدل لا يثق كثيرون بمواقفه لتخصّصه في الدفاع عن المتطرفين من كل الاتجاهات: جاك فيرجيس». وقللت كذلك من منطق تواطؤ المخابرات الفرنسيّة مع نظيرتها السوفياتيّة لتنفيذ عمليّة لتصفيّة قامة أدبيّة بحجم كامو من دون معرفة الرئيس الفرنسي شارل ديغول، المعروف بتبجيله لمثقفي بلاده على اختلاف مواقفهم السياسية بما فيها المعارضة له.
كاتيللي، اتّهم منتقديه يميناً ويساراً بالعمى الأيديولوجيّ الذي يمنعهم من تقبل الإمكانيّة المؤلمة. وبرغم كل الانتقادات واللمز بشأن دوافعه لإبقاء نظريّة المؤامرة حيّة بشأن حادثة مقتل كامو، تأمّل في أن يدفع كتابه بنسخته الجديدة – فرنسيّة وإنكليزيّة – العارفين بالأمور «لتقديم أدلة جديدة تؤيّد ما ذهبنا إليه بشأن المؤامرة ضد هذا الكاتب العظيم قبل أن تمحوها موجات الزمن وتختفي آثارها الواهية وراء التاريخ»، معتبراً بـ «أننا مدينون بذلك للحقيقة، ولكامو».