أميركا في بلاد النيل: سياسة الغموض (غير) البنّاء
منذ اللحظة الأولى لوصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، شكّل عهد الرئيس الديموقراطي تحدّياً لمسارٍ دبلوماسي سياسي بدأه سلفه دونالد ترامب على مستوى العلاقات الأميركية – السودانية. فتطبيع العلاقات بين الخرطوم وواشنطن، المحمول على أكتاف نسخة سودانية مقتبسة في جانب كبير منها من أحداث «الربيع العربي»، شكّل علامة فارقة في عهد ترامب، بعد نحو 30 عاماً من القطيعة، ظلّلتها عناوين «العقوبات» و»حقوق الإنسان»، و»الإرهاب»، ولا سيما أن الرئيس السابق حمل سِمات الرجل القادم من عالم المال والأعمال. ووفق صيغة هي أقرب إلى نهج عقد الصفقات التجارية، جاءت عودة العلاقات الدبلوماسية، بعد إطاحة نظام عمر البشير لحساب سلطة انتقالية مكوّنة من العسكريين والمدنيين عام 2019، ضمن سلّة شروط أميركية مطلوبة من الخرطوم تشمل «نبذ الإرهاب»، ودفع تعويضات لأُسر قتلى ومصابي تفجير السفارتَين الأميركيتَين في كينيا وتنزانيا خلال التسعينيات، والهجوم على المدمّرة الأميركية «كول» مطلع الألفية الثالثة من قِبَل تنظيم «القاعدة»، وهي تعويضات مقدّرة بنحو 335 مليون دولار، إضافة إلى إقامة علاقات مع إسرائيل. شرطان أوفى بهما السودان، فضلاً عن شروط أخرى تَخدم نهج أميركا الدعائي في شأن «تعزيز القيم الديموقراطية»، متّصلة أصلاً بإنجاز عملية «انتقال سياسي» بعيداً من سلطة الجيش، لا تتوفّر بذور نجاحها راهناً بسبب عوامل داخلية وأخرى خارجية. في المقابل، جاءت «المكافأة» من جانب الإدارة الأميركية السابقة من خلال الموافقة على رفع اسم السودان من قائمة واشنطن لـ»البلدان الراعية للإرهاب».
ومع مجيء بايدن، وما رافق ذلك من مستجدّات حاقت بالمشهد السوداني بعد انقلاب قائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، على الحكومة المدنية برئاسة عبد الله حمدوك في تشرين الأول 2021، بدا كأن جانباً كبيراً من المراوحة راود الملفّ. مراوحةٌ مَنعت استكمال التفاهمات الثنائية بين واشنطن والخرطوم، والثلاثية بينهما وبين تل أبيب، سواء تلك المتعلّقة بنقل التطبيع السوداني – الإسرائيلي من بُعده الاقتصادي الغالب، إلى حيّز الاعتراف الدبلوماسي الكامل، أو الحفاظ على تعهّدات الإدارة السابقة على صعيد تكثيف الدعم الاقتصادي. في الظاهر، سعى العهد الجديد إلى أن يُظهر للجمهور الأميركي أنه ملتزم بوعوده الانتخابية بإعادة «الدمقرطة» على الأجندة العالمية لبلاده. أمّا في الباطن، فتخوض واشنطن معركتَين في آن: تشجيع السودان على تعزيز علاقاتها مع إسرائيل، ومحاربة نفوذ الخصوم الاستراتيجيين على الساحة الأفريقية بصورة عامة، والسودان بصورة خاصّة، وعلى رأسهم روسيا والصين. فالولايات المتحدة تترقّب بقلق بالغ تطوّر التبادل التجاري بين بلدان القارّة الأفريقية والصين خلال السنوات الأخيرة، حيث بلغ 184 مليار دولار عام 2017، في مقابل نحو 65 مليار دولار بينها وبين الولايات المتحدة في العام نفسه. كذلك، يَحضر الخوف من النفوذ الروسي، من منطلق مغاير، يطغى عليه الجانبان الاستراتيجي والأمني، على ضوء تطلّع الروس إلى تأسيس قاعدة عسكرية على شواطئ السودان المطلّة على البحر الأحمر. لعلّ هذه الاعتبارات تفسّر موقف إدارة بايدن بعد انقلاب البرهان، حين بادرت إلى تعليق مساعدات اقتصادية كانت مقرَّرة للسودان بقيمة 700 مليون دولار، وسحب دعمها لخطّة إعادة هيكلة الدين العام لهذا البلد وتخفيف حجم الديون المترتّبة عليه لحساب عدد من الدائنين، بما في ذلك الولايات المتحدة ودول غربية وعربية، لحساب إطلاق برنامج ائتماني لدعم الخرطوم بالتعاون مع «صندوق النقد الدولي». في المقابل، لم تصل إجراءات واشنطن «الزجرية» بحقّ الانقلابيين، إلى حدّ فرض عقوبات مباشرة عليهم.
ما سبق يدعمه حديث تقارير غربية عن انقسام في أروقة إدارة بايدن، بين وزارة الدفاع ووكالة الاستخبارات المركزية من جهة، ووزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي من جهة أخرى. ذلك أن الفريق الأول، وعلى رأسه قائد القيادة الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، الجنرال مايكل لانغلي، يميل إلى النظر إلى السودان من وجهة محصورة بالصراع مع الصين وروسيا، فيما يؤيّد الفريق الثاني، مثل وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومساعدته للشؤون الأفريقية مولي في، قيام حكومة مدنية تضع في صدارة أولويّاتها تتويج مسار «العملية الانتقالية» عبر الدفع قُدماً نحو التطبيع مع إسرائيل على نحو أبعد ممّا ذهب إليه البرهان حتى الساعة. وعلى خلفية ذلك الانقسام، يتحدّث بعض المراقبين الغربيين عن ارتباك يعتري أداء الإدارة الأميركية في ما يتّصل يشؤون القارة الأفريقية بصورة عامة، والسودان بصورة خاصّة، في إشارة إلى غياب مقاربة أميركية واضحة لملفّات القارة. وفي هذا السياق، يعيب موقع «أفريكان إنتليجانس» على مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأفريقية، مولي في، افتقارها إلى الخبرة الدبلوماسية اللازمة لإدارة ملفّات بحجم تعقيد الملفّ السوداني.
ويكشف الموقع أن أعضاء الفريق المعنيّ بالشؤون الأفريقية داخل وزارة الخارجية الأميركية، ليسوا جميعهم على قدرٍ عالٍ من التخصّص في شؤون القارة السمراء، مشيراً إلى أنّ تعيين مولي في، التي شغلت منصب سفيرة واشنطن في جنوب السودان بين عامَي 2015 و2017، في منصبها الرفيع ضمن الدائرة المقرّبة من بلينكن، فاجأ الأوساط الأكاديمية والدبلوماسية في واشنطن، ولا سيما أنه لم يحظَ بإجماع من جانب الخبراء الأميركيين المخضرمين في الشؤون الأفريقية، بالنظر إلى أن مولي في تولّت معظم مسؤولياتها السابقة في الأقسام المتخصّصة بمنطقة الشرق الأوسط، على غرار شغلها منصب مديرة لشؤون العراق في مجلس الأمن القومي خلال عهد الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، بين عامَي 2009 و2011. ويلفت الموقع إلى أن في، وهي أحد مستشاري بايدن للشؤون الأمنية حين كان نائباً للرئيس أوباما، تمتلك خبرة محدودة في الشأن الأفريقي، مقارنة بأسماء أخرى لامعة جرى التداول بها في بداية عهد الإدارة الأميركية الحالية من أمثال سوزان بيج، وهي أول سفيرة لواشنطن في جنوب السودان (2011-2014). وعلى العموم، يُنظر إلى قسم الشؤون الأفريقية على أنه الأضعف والأقلّ كفاءة في وزارة الخارجية الأميركية، وفق «أفريكان إنتليجانس».
وفي إطار تقييم السياسة الأميركية تجاه السودان، والتي تكتفي بالتأييد اللفظي لمسار «العملية الانتقالية»، بدعم أممي، تقول كبيرة المحلّلين في مؤسّسة «راند» للدراسات، جاكلين بيرنز، إن القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في هذا البلد «يمكن أن تؤدي دوراً مفيداً للغاية في إقناع الطرفَين المتحاربَين بوقف القتال». وتضيف بيرنز، التي شاركت عن كثب في رسم السياسة الأميركية في السودان خلال فترة عملها كمستشارة استراتيجية في وزارة الخارجية، أنه «في حال استمرار تلك القوى في تأييد العمليات (السياسية) التي تعطي الأولوية لمطالب القوى العسكرية (السودانية) وتكفل سيطرتها على القوى المدنية، فإنّ من شأن ذلك إلحاق الضرر بالسلام والاستقرار على المدى الطويل». وترى أن «اتّباع واشنطن مثل هذا النهج هو عين الخطأ، الذي وقعت فيه خلال محاولاتها السابقة» إرساء تسوية للأزمة. من جهتها، تسخر مجلة «نيوزويك» من النهج الأميركي المتّبع حيال الوضع في السودان، معتبرةً أن «(دبلوماسية) الرجاء لا يمكن الركون ليها كاستراتيجية». وتزيد أن مقاربة إدارة بايدن لمسألة التغيير في السودان، تقوم على «مفهوم سحري» مفاده بأنه «إذا ما دعمنا التوصّل إلى تسوية بين الجيش السوداني الذي استعاد السلطة بالقوة، والنخب السياسية والمدنية، فسنتمكّن من استيلاد مسار ديموقراطي، بقيادة مدنية». وتشرح ثغرات هذا المبدأ لناحية الرهان على أن «الفاعلين العسكريين أنفسهم الذين نفّذوا انقلاباً لوقف مسار الديموقراطية سيتخلّون في الوقت الراهن عن السلطة من دون أيّ رادع أو تكاليف مالية»، في إشارة إلى ضرورة فرض عقوبات دبيلوماسية أو مالية على قادة الجيش السوداني لممارسة الضغوط عليهم ودفعهم إلى تسليم السلطة للمدنيين.
في المحصّلة، ترغب إدارة بايدن في القفز فوق إرث ترامب، في اتّجاه إعادة صياغة علاقتها مع السودان، ربطاً بمجريات الصراع في أوكرانيا، بهدف عزل روسيا دولياً، والوقوف في وجه المدّ الصيني المتنامي في أفريقيا، كجزء من المعركة على زعامة العالم. ويبدو أن «لعبة التذاكي» ضمن إطار تحسين الشروط لا تقتصر على طرف واحد، إذ إن كلّاً من البرهان وحميدتي يسعى خلف شروطه في معادلة العلاقة مع واشنطن. وإذا كانت الأخيرة تفعل فعلها في السودان، وهي تنشد حسْم مزاحمة بكين لها على رأس النظام الدولي، فإن مجريات صراع الجنرالَين على الأرض هناك تبحث عن عرّاب دولي ينتدب أحدهما على رأس هرم القيادة في البلاد. فمن جهته، يلعب البرهان لعبة مكشوفة، ذلك أن جلّ ما يريده من واشنطن، مستفيداً من عامل قيادته للمؤسّسة العسكرية، هو أن يقايض ملفّ التطبيع مع تل أبيب، بدعم أميركي مطلق لتمكينه داخلياً من إعادة بعث النظام السابق ضمن مواصفات سياسية ترضاها الولايات المتحدة، وتحصيل حصانة سيادية ضدّ انتهاكات المؤسّسة العسكرية، سواء خلال فترة تولّيه قيادة الجيش إبّان حكم البشير، أو بعده، الأمر الذي لا يلقى تأييداً واسعاً في الكونغرس الأميركي. وما تأجيل البرهان محاكمة الرئيس السابق عمر البشير، وتذرّعه بضرورة الحصول على موافقة برلمان جديد منتخَب قبل توقيع اتفاق تطبيع نهائي مع إسرائيل، إلا دليل على مناورة يقوم بها في هذا الاتجاه. أمّا حميدتي، المتّهم بارتكاب جرائم حرب في دارفور، فهو يحاول «تقريش» الكباش الروسي – الأميركي لمصلحته، حيث لا يتورّع عن تأييد خطط موسكو لإقامة قاعدة عسكرية على سواحل بلاده تارةً، بينما يعمَد إلى مغازلة الأميركيين تارة أخرى، وذلك من خلال تصريحات يعلن فيها دعمه «العملية الانتقالية» في بلاده، وتجد من يؤيّدها – بالمناسبة – في أوساط نخبة السياسة والإعلام في واشنطن، ويهلّل لها.
أمّا عن الأبعاد الجيوسياسية لصراع البرهان – حميدتي، فلم يَعد خافياً حجم رهانات القوى الخارجية الكامن خلفه، إذ على مدى الأسابيع القليلة كان الإعلام الغربي والعالمي يشيع نذر الحرب المرتقبة بين جنرالات السودان، على وقْع زيارات دبلوماسية وأمنية رفيعة المستوى ومكثّفة تقاطعت خطوطها بين الخرطوم، وواشنطن، وصولاً إلى تل أبيب وموسكو. ففي شهر شباط الماضي، حطّ وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، رحاله في الخرطوم، بعد أيام من زيارة قام بها وزير الخارجية الإسرائيلي، إيلي كوهين، إلى العاصمة السودانية. وقبل ذلك، كان رئيس الاستخبارات العسكرية السوداني، أحمد صبير، يجري لقاءات رفيعة المستوى مع مسؤولين أمنيين في الولايات المتحدة. وبحسب مراقبين غربيين، يشير تسلسل الأحداث المشار إليه، إلى حدوث تغيّر في الموقف الأميركي تجاه المسألة السودانية. ويرى الباحث المتخصّص في الشأن الأفريقي، أنطوان رولاند، أن ملفّ تكريس الحريات السياسية لم يَعد مدرجاً على أجندة الولايات المتحدة، معتبراً أن الأولوية الملحّة لإدارة بايدن باتت تتمحور حول استعادة الاستقرار (الأمني والسياسي) في أقرب وقت ممكن، ومواجهة نفوذ موسكو المتنامي في أفريقيا، حتى لو كان ذلك يعني إضفاء الشرعية على سلطة البرهان. وتكشف مصادر غربية مطّلعة على كواليس لقاءات المسؤول السوداني في العاصمة الأميركية، أن الطبق الرئيسيّ للزيارة تَمثّل في علاقات حميدتي بشركة «فاغنر» الروسية، مضيفة إن إدارة بايدن تأمل استمالة البرهان بهدف إحداث تغيير جذري في ميزان القوى الداخلي لمصلحته.
صحيفة الأخبار اللبنانية