أميركا وعولمة «الخطر الإيراني» (سمير كرم)

سمير كرم

 

كأنما أدركت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما فجأة أن إيران وجوداً يُحسب له ألف حساب في أميركا الجنوبية – أي قريباً جغرافياً وإستراتيجياً وثقافياً من أميركا الشمالية، وبالتحديد من الولايات المتحدة – فأصدرت قبل أيام قانوناً جديداً «لمواجهة نفوذ إيران المتزايد في اميركا اللاتينية».
وانتهزت وكالات الانباء الاميركية، شبه الرسمية، الفرصة لتصف اميركا اللاتينية بأنها «الفناء الخلفي» للولايات المتحدة، وكأنما تريد هذه الوكالات ان تدمج في نبأ القانون الاميركي الجديد ضد إيران صفة، غابت منذ أكثر من عقد من الزمان عن بلدان اميركا الوسطى والجنوبية عند وصف علاقتها بالولايات المتحدة. وكانت عودة هذا الوصف الإمبريالي لأميركا اللاتينية، إشارة كافية الى المدى الذي تريد الولايات المتحدة ان تصل اليه في التعامل مع هذه القارة الواسعة في علاقاتها الإيجابية مع إيران.
إن الموقع الجغرافي بحد ذاته دالٌ على ان إيران لا يمكن ان تشكل خطراً عسكرياً مباشراً او حتى غير مباشر على اميركا اللاتينية او على اميركا الشمالية. ومع ذلك، فمن الواضح ان القانون، الذي رأت ادارة اوباما ان تصدره، يتطلب من وزارة الخارجية الاميركية ان «تطور إستراتيجية خلال 180 يوماً لتحديد أنشطة الوجود العدائي الإيراني في المنطقة». كما ان القانون الجديد يتطلب من وزارة الامن القومي الاميركية ان تدعم استطلاعاتها على الحدود الاميركية مع كل من كندا في الشمال والمكسيك الى الجنوب، «لمنع عملاء إيران وسرايا القدس، التابعة لقوات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني، أو أي منظمة إرهابية أخرى من الدخول الى الاراضي الاميركية».
بل يشير القانون الاميركي الجديد في هذا الصدد الى ان الحكومة الاميركية قد وضعت «خطة للتعاون بين الوكالات الامنية الاميركية لزيادة الامن في اميركا اللاتينية». ووضعت هذه الوكالات خطة إضافية «لمكافحة الارهاب والتطرف لعزل إيران وحلفائها».

الهيمنة الدائمة!

وتؤكد هذه النصوص، التي تناقلتها وكالات الانباء، ان الولايات المتحدة قررت ان تتخذ من إيران و«النفوذ الإيراني» في اميركا اللاتينية ذريعة ومبرراً للعودة الى السياسة الامبريالية التي كانت تنتهجها الادارات الاميركية المتعاقبة، لضمان استمرار الهيمنة على دول اميركا اللاتينية. ويحدث هذا في وقت استطاع فيه عدد لايستهان به من دول القارة اللاتينية، أن يزيح عن كاهله أشكال الهيمنة الاميركية الاقتصادية والسياسية والإستراتيجية، التي كانت تكبل هذه البلدان وتربطها بمصالح المؤسسات والشركات الكبرى الاميركية.
إنها بصريح العبارة محاولة لإعادة عهد «جمهوريات الموز» الى جمهوريات اميركا اللاتينية بعد أن تخطته هذه الجمهوريات بوقت كاف، مؤكدة تفوق سياسات الاستقلال والتحرر والتقدمية في السياسات الداخلية والخارجية. إنما هذه المرة باستخدام ذريعة «النفوذ الإيراني».
ولعل اهم ما يلفت النظر في هذا الصدد، هو أن مسؤولين اميركيين قد اعترفوا، وهم بصدد الحديث عن القانون الاميركي الجديد الذي يسعى لملاحقة النفوذ الإيراني في اميركا اللاتينية، بأنه «لا يوجد دليل على أنشطة إيرانية خفية في المنطقة»، على الرغم من إشارة من هؤلاء المسؤولين الى ان الرئيس الإيراني كان قد قام بزيارتين رسميتين في العام المنصرم لاثنتين من جمهوريات اميركا اللاتينية. وهي إشارة تؤكد ما نذهب اليه، من ان القانون الاميركي الجديد انما يقصد تهديد الجمهوريات اللاتينية اكثر مما يرمي الى تهديد إيران. إنه فقط يستخدم هذا «النفوذ الإيراني» مبرراً لتهديد الجمهوريات اللاتينية بأن النفوذ الاميركي عائد الى القارة ويستعرض قوته العسكرية لتحقيق هذا الغرض.
ويتضح هذا الهدف الاميركي الإستراتيجي بصفة خاصة من نصه على ضرورة تكثيف التعاون بين الولايات المتحدة وجمهوريات اميركا اللاتينية «لوضع خطة عمل توفر الأمن لهذه الدول من خلال العمل على مكافحة الإرهاب والتطرف، سعياً الى عزل إيران وحلفائها». ويعود النص المذاع عن هذا القانون ليتحدث عن «ضرورة السعي لعزل إيران وحلفائها ومراقبة الأنشطة الإيرانية في اميركا اللاتينية»، وذلك في تناقض صارخ وصريح مع تأكيدات المسؤولين الاميركيين، وبالتحديد المسؤولين الكبار في وزارة الخارجية الاميركية نفسها، لوكالات الانباء بأنهم «لا يمتلكون اية إشارات تدل على وجود انشطة غير مشروعة لإيران في القارة اللاتينية».

التوسع الإيراني!

وربما يجيء هذا النمط من التهديدات الاميركية لإيران والنفوذ الإيراني في اميركا اللاتينية متأخراً، بل متأخراً كثيراً. ذلك ان إيران أقدمت خلال السنوات القليلة الاخيرة على فتح سفارات جديدة لها في سبع من الجمهوريات اللاتينية، بالإضافة الى عدد من المراكز الثقافية في عدد من مدن القارة. وهكذا وصل عدد السفارات الإيرانية في القارة الى 11 سفارة، بعد ان كان لإيران اربع سفارات فقط فيها، وزاد عدد المراكز الثقافية الإيرانية الى 17 مركزاً. ويجدر بالذكر هنا ان الولايات المتحدة تملك بالمقابل سفارات في كل بلدان اميركا اللاتينية الثلاثة والعشرين، كما تملك مراكز ثقافية لا يقل عددها عن عدد المدن الكبرى في القارة. ويدل هذا بدوره على ان الادارة الاميركية باتت تستشعر ضعف أدائها – الدبلوماسي على الاقل – في بلدان القارة امام نشاط السفارات والمراكز الثقافية الإيرانية. وفي هذا الصدد، فإن من الواضح ان الولايات المتحدة تغفل حقيقة بسيطة هي ان تقدير جمهوريات اميركا اللاتينية للوجود الإيراني هو انه يعكس مصالح مشتركة، ولا يعكس مظاهر الهيمنة التي تحاول الولايات المتحدة ان تفرضها عليها. انه يعكس ارتياح الجمهوريات اللاتينية الى النتائج التي يسفر عنها التقارب مع إيران في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، على العكس من انعكاسات المواجهات التي تبرزها العلاقات مع الولايات المتحدة.
ولقد وصفت مصادر مسؤولة في واشنطن حجم العلاقات الاقتصادية بين إيران ودول اميركا اللاتينية بالضخم. وقالت هذه المصادر إن إيران عززت وجودها في هذه البلدان من خلال استثمارات ضخمة فيها. ولم يظهر اي دليل على ان هذا الواقع الجديد للعلاقات بين إيران وجمهوريات اميركا اللاتينية يمكن ان يكون قد خلق توترات في العلاقات بين هذين الطرفين، ولكنه بالتأكيد خلق توترات حادة للولايات المتحدة، التي تعاني من تراجع نفوذها في القارة التي تعتبرها واشنطن بمثابة الفناء الخلفي لها او الحديقة الخلفية لوجودها الجغرافي.

من المحيط الباسفيكي إلى الخليج العربي

وعلى اي الاحوال، فإن هذه الملاحقة الاميركية لما تعتبره النفوذ الإيراني تتخذ الآن طابعاً دولياً. انها لا تقتصر على اميركا اللاتينية، كما قد يوحي اصدار واشنطن هذا القانون الجديد. وليس خافيا على احد ان الخليج، والشرق الاوسط بوجه عام، يقع في المقدمة بالنسبة لمحاولات واشنطن ملاحقة «النفوذ الإيراني». ولا بد هنا من الاشارة الى ان الولايات المتحدة تجد معونة ومساندة من عدد من نظم الحكم في هذه المنطقة، لا تجده في اميركا اللاتينية. فإن دويلات الخليج النفطية تؤدي دور الطابور الخامس لحساب خطط واشنطن وسياساتها على النحو الذي نراه الآن في احداث سوريا الدموية، وعلى النحو الذي رأيناه قبل ذلك في ليبيا واليمن، ولا نزال نراه ونلمسه بشدة في أحداث مصر. وفي كل الاحوال، فإن واشنطن تحاول على الدوام استخدام ما تسميه «الخطر الإيراني» في هذه المنطقة للتغطية على حقيقة الخطر الاميركي فيها. إن الخطر الاميركي يسبق كل ما عداه الى منطقة النفط العربي وإلى منطقة التميز الإستراتيجي في الخليج والشرق الاوسط. وهو يتذرع بـ«الخطر الإيراني» في هذه المنطقة التي توجد إيران فيها جغرافياً وسياسياً وإستراتيجياً، بل وتاريخياً، بينما تقع الولايات المتحدة على بعد آلاف الكيلومترات منها، ولا يكاد يكون للولايات المتحدة فيها وجود تاريخي إلا في الفترة الحديثة التي تزامنت مع خطط التوسع الاميركية للحلول محل النظم الاستعمارية التقليدية، وبصفة خاصة بريطانيا وفرنسا اللتين حكمتا بلدان المنطقة الى ما بعد وقت قصير من نهاية الحرب العالمية الثانية.
إن الولايات المتحدة، التي تمر بفترة تراجع، تهدد مركزها الاول بان يتحول الى مركز ثان او ثالث ـ بعد الصين وربما بعد البرازيل اللاتينية ـ تجد نفسها مجبرة على أن تتظاهر دولياً بالقيام بالدور المهيمن نفسه الذي كانت تؤديه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عندما كانت في ذروة قوتها الاقتصادية والعسكرية.
ويمكن ان يكون سقوط الاتحاد السوفياتي ـ الذي فاجأ اميركا كما فاجأ العالم بأكمله ـ قد داعب احلام الحكام الاميركيين بأن تكون لهم الهيمنة الكاملة على العالم، ولكن الفترة منذ سقوط النظام السوفياتي هي نفسها الفترة التي تشهد تراجع القوة الاميركية الاقتصادية والعسكرية، وهي نفسها الفترة التي تشهد تصاعد القوى الثورية المناوئة للهيمنة الاميركية، متمثلة في الصين وإيران وأميركا اللاتينية الآخذة بنظام اقتصادي تحرري. وعلى ذكر الصين، لا بد من التساؤل عن السبب الذي يجعل الولايات المتحدة تركز على ملاحقة «الخطر الإيراني» حتى اميركا اللاتينية، بينما نجدها لا تتحدث بالوتيرة ذاتها عن «الخطر الصيني» الذي يلاحق الهيمنة الاميركية من شرق آسيا الى اميركا الجنوبية في منافسة اقتصادية وتكنولوجية بالدرجة الاولى.
كلما لاحقت اميركا «الخطر الإيراني» في ارجاء المعمورة، كلما بدا ان الولايات المتحدة تبدي حرصاً على تنفيذ مصالح اسرائيل الصهيونية، على الرغم مما تبديه الولايات المتحدة من تيقظ كاف الى ان خطر التصدي لإيران عسكرياً لحساب اسرائيل والمصالح الاسرائيلية يفوق بكثير خطر التصدي لها دفاعاً عن اميركا والمصالح الاميركية.

صحيفة السفير اللبنانية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى