أمير رمسيس في جديده «بتوقيت القاهرة»

ثمة فاصل بسيط يكاد لا يمكن تمييزه إذ يفرّق بين التعاطف والشفقة، بين الحنين والمشاركة، وبين التعالي من منطلق الأقوى. وقد تغرورق العيون بالدمع مع ابتسامة تأخذ طريقها إلى الشفاه. والحقيقة أن تلك قد تكون حالك عند مشاهدة فيلم «بتوقيت القاهرة» للمخرج أمير رمسيس، حيث تنكسر كل التوقعات المسبقة في شأن قصة الفيلم مع توالي مشاهده. مهما يكن فإن لا شيء يمكنه أن يعطي القارئ صورة عن روح الفيلم إلا فعل المشاهدة. ومع هذا يمكن المجازفة بالحديث عنه بالإشارة منذ البداية إلى أن ثلاثة خطوط درامية يسير على قضبانها سياق الأحداث:

– ممثلة معتزلة، تنحسر عنها الأضواء، وتفكر في الزواج. فيكون المُرشح لهذا الزواج رجلاً ذا توجه ديني، بما يحمله هذا التوجه من انعكاسات على شخصية الممثلة كما على تطور الأحداث.

– رجل مصاب بالآلزهايمر يعيش مع ابنه وابنته، الابن ذو توجه ديني أصولي، ربما هو ما يدفعه إلى معاملة أبيه بقسوة فائقة، أما الأب فيعيش على أمل واحد أن يقابل صاحبة صورة يحتفظ بها ولا يعرف من هي ولا أي شيء عنها سوى أنها شخص مهم في حياته.

– على الجانب الآخر، سيكون الخط الدرامي الثالث نمطاً جديداً لمورد المخدرات (الديلر) حيث تختفي صورة الشاب البلطجي ليحل مكانها شاب حسن المظهر يتحرك بسيارة، وزبائنه من علية القوم.

يعكس السرد السينمائي وجهة نظر المؤلف/المخرج عن مفهوم الإسلام السياسي فهو الابن القاسي الخطيب الغير واعٍ والمتزمت من دون منطق أو وعي، الأمر إذاً لا يخلو من وجهة نظر نحو موضوع بعينه. اللافت في الكتابة أن أمير رمسيس لم يترك نفسه لوجهة نظره تلك، ليوضحها أو يعمق تواجدها داخل السياق بمشاهد أكثر، بل أكتفي بآثارها على تطور الأحداث، وهو ما يترك أثراً أعمق بكثير من استعراض الأيديولوجيات التي يمكن أن تُقحم الفيلم في مباشرة وفجاجة.

نور المختلف

ينحاز رمسيس لما هو صادق بامتياز، سواء كان ذلك كتابةً أو أداء جاء عبر إدارته لممثليه، نور الشريف يؤدي دوراً مختلفاً جداً حيث يتمتع برقة وحساسية مفرطة، ونراه في شخصية مريض الآلزهايمر في شكل مختلف عما اعتدناه منه في الشخصيات الدرامية، شخصية جديدة رسمها رمسيس بحساسية مفرطة، وتألق نور في أدائها، عبر إمساكه بتفاصيل غاية في البساطة والعمق، الفارق بين الوعي واللاوعي حاجز شفاف لا ندركه وإنما نشعر به، وذلك هو ما يؤكده نور في أدائه، فمشهد لقائه بابنته في مقهى على الطريق الصحراوي وكيفية إنكاره معرفتها، وتلقائية الأداء يدفع المشاهد إلى أن يشعر بالشفقة على الرجل الذي فقد كل ذاكرته في جب سحيق من النسيان، بينما بعد لحظات قليلة يعترف الأب لمرافقه القدري أنه أنكر ابنته عمدًا لأنه يسعى نحو حُلمه/ حياته. البطل هنا يجد إنقاذه في العثور على صاحبة الصورة، يرى فيها ملاذه واستعادة تاريخه، أما إنكاره لابنته فهو إنكار عابر في محاولة لاستعادة تاريخه الذي يربطه به مجرد إيمان عميق وحدس دافع للبحث.

متوالية الصدق تتكرر عند الممثلة المعتزلة ليلى السماحي، وزميلها كمال، كلاهما انحصر عنه الضوء ويعيش في عُزلته، كمال ينتظر دعوة ابنه ليغادر مصر، لكنه يحافظ على نمط حياة يُشعره بأهميته كفنان حتى ولو لم يعد موجوداً على الشاشة. أما ليلى التي تذهب لمقابلة سامح بدفع من الخطيب وفي إطار ملاحقة أقل ما توصف بها أنها حمقاء وغير منطقية، تبدو ليلى (ميرفت أمين) مفتعلة وهي تتحدث عن طلاق من زيجة وهمية تمت في أحد أفلامها، لا تستعيد صدقها إلا في تلك اللحظات القليلة التي ينجح فيها سامح لجذبها لمنطقة الذكرى حيث نجاحهما المشترك. وقد استغل أمير رمسيس بعضاً من المشاهد السينمائية التي جمعت سمير صبري وميرفت أمين في أعمال سابقة.

أما الخط الدرامي الثالث والذي قاد أحداثه شريف رمزي في دور (الديلر)، فلم يأت بمستوى صدق الخطين السرديين الآخرين. وجاءت مكالمة الزبونة (كندة علوش) للديلر غير منطقية في ظل علاقة سطحية ميراثها من الزمن لقاء واحد لإتمام صفقة شراء، خاصة أنها كانت مكالمة بغرض الاطمئنان وإعلان الاشتياق لا أكثر.

هنا لا بد من الإشارة إلى أن تراجع «بتوقيت القاهرة» في شباك الإيرادات أمام أفلام أخرى ربما أقل صدقًا وحساسية، يمكن أن نعزوه إلى أن هذا الفيلم يمثل حالة شديدة الخصوصية، من التعامل مع حدث وشخصيات من نسيج حي. فهو ينحاز إلى الصدق، ويحتاج بالتالي ذائقة خاصة في المشاهدة، بمعنى أنه لا يمنح نفسه لراغبي البحث عن الإفيهات وأغاني المهرجانات. يكشف الفيلم عن طاقات كامنة لطاقم عمله، فنور الشريف يقدم دوراً متميزًا وغير معتاد عليه، ينزع عنه قولبة الأعمال الدرامية التي عُرضت في السنوات الأخيرة، وكذلك ميرفت أمين، ويكشف سمير صبري قدرته المتواصلة على العطاء أمام الكاميرا بروحه المتجددة.

أما أمير رمسيس فهو يُقدم نفسه ليس كمخرج يمتلك عيناً مختلفة خلف الكاميرا، لكن ككاتب سيناريو يجيد الإمساك بأدواته ولا تسرقه أضواء وصخب الآراء والأيديولوجية حتى وإن كانت متوافقة مع السياق المجتمعي العام.

صحيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى