أمين نخلة أمير النثر العربي… بلاغة وتجديداً (عبده وازن)

 

عبده وازن

لعل إقدام «دار صادر» على نشر الأعمال الكاملة للشاعر والناثر اللبناني الكبير أمين نخلة (1901 – 1976) هو حدث لم تشهد الحركة الأدبية اللبنانية ما يماثله في الآونة الأخيرة. فأعمال صاحب «المفكرة الريفية» لم يقيض لها أن تجتمع من قبل في خمسة مجلدات، تضم كل أعمال الأمين النثرية والشعرية ومن ضمنها مؤلفاته القانونية والتاريخية. ومع صدور هذه الأعمال يعود الأمين إلى واجهة الأدب في لبنان، وإلى موقعه في الصدارة التي طالما استحقها ولا يزال. وبات الآن في مقدور القراء والنقاد مواكبة كاتبهم كتاباً تلو كتاب، وفق تاريخ التأليف والنشر. وقد أشرف على إصدار هذه الأعمال الناشر نبيل صادر بنفسه حرصاً على سلامتها الطباعية وخلوها من الأخطاء. هنا قراءة في ظاهرة أمين نخلة الناثر.
< لم يكد أمين نخلة يُصدر «المفكرة الريفية» عام 1942 حتى انبرت الأقلام ترحب بها وبصاحبها أيما ترحاب، مادحة صنيعه الجديد وغير المألوف، في اللغة والأسلوب والشكل وفي مقاربة الأدب الريفي وتحريره من فطريته ونزعته العامية وبُعده «الشفهي». كان النثر اللبناني موزعاً حينذاك بين رومنطيقية جبران خليل جبران الذي أعلن ثورته على الإرث البلاغي، وقد كان بلغ أوجه مع رواد المقلب الأول من عصر النهضة، وبين الفن القصصي الذي بدأ يتجلى مع مارون عبود وسواه، وفن المقالة الذي راج في تلك الآونة مع عمر فاخوري وفؤاد سليمان وبضعة شعراء دأبوا على تدبيج مقالاتهم في الصحف من أمثال الأخطل الصغير والياس أبو شبكة وسواهما. حملت «المفكرة الريفية» فناً نثرياً هو في آن واحد، سليل التراث النثري العربي ووليد الذائقة الحديثة التي خبرها كاتبنا في حقول الأدب الفرنسي المعاصر. هذا الضرب من النثر أدرجه بعضهم في خانة «النثر الفني» وألحقه بعض آخر ب، «المدرسة البرناسية» التي تقول بما يسمى «الفن للفن»، وقضية البرناسية تحتاج إلى نقاش، ووصفه نقاد بأنه «نسيج وحده» وصاحب «المدرسة النخلية» الفريدة، وأنه «لون جديد من الأدب»… وتخطت أصداء هذه «المفكرة» حدود لبنان ولقيت ترحاباً كبيراً في مصر والعراق وسورية وفلسطين… وكم كان مفاجئاً أن يمتدح الكتابَ هذا بضعة شعراء «محافظين» لا عهد لهم بمثل هذا النثر، كأن يقول فيه حافظ إبراهيم: «أدب أمين نخلة شك لؤلؤ»، وخليل مطران: «هذا كاتب يستطيع أن يجمع لك المجلدات في لفظة واحدة»، ومحمد مهدي الجواهري: «كتاب «المفكرة الريفية» هو بحق فتح في عالم الفن والأدب، لم نجد نظيراً له في أسلوبه، ولا في خياله المحلّق ولا في ما تخلل فصوله من روعة الحب والحياة والطبيعة». وكتب الشاعر الفلسطيني أبو سلمى مخاطباً الأمين: «أنت تطلع على الأفئدة بنظرة وتفتح آفاقاً بكلمة وتخلق دنياوات بجملة»… ناهيك عن مقالات كثيرة كتبها أدباء كبار أثنوا فيها على «المفكرة»، ومعظمها مثبت في ملف داخل الكتاب ويشكل مرجعاً لما كتب عنها في تلك الحقبة، ويدل على كيفية استقبالها نقدياً.
إلا أن نثر أمين نخلة لا يمكن قصره على «المفكرة» التي صنعت مدرسة في النثر، على رغم صفحاتها التي تناهز المئة والعشرين، فالكاتب ما لبث أن أكمل مسراه النثري بعدما جمع قصائده التي كانت راجت، في ديوان أول هو «دفتر الغزل» (1952) وكان بمثابة حدث كبير في الحركة الشعرية النيوكلاسيكية التي كان الأمين واحداً من روادها، وقد رسخ هذا الديوان مرتبته في طليعة الشعر الجمالي الذي تجلى في صنيع الشعراء الذين أعقبوا جيل المجددين الأوائل في مصر والعراق ولبنان…
لم ينقطع الأمين عن كتابة النثر في منحاه «الفني» والتأملي، على رغم صعود نجمه الشعري الذي كان توّجه أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1925 في قصيدة سماه فيها وارثاً الإمارة ويقول مطلعها: «هذا وليّ لعهدي/ وقيّم الشعر بعدي» … أما بيتها الأخير فيعلن: «والعصر عصر أمين/ خير ومطلع سعدِ». وأشيع أنّ القصيدة هذه كتبها الأمين نفسه ونسبها إلى أحمد شوقي. ولا أحد يدري.
«الايماء الصافي»
بعد «المفكرة الريفية» التي توالت طبعاتها أصدر صاحبها «تحت قناطر أرسطو» (1954) ثم «كتاب الملوك» (1954) ثم «ذات العماد» ( 1957) و «أوراق مسافر» (1967) و «في الهواء الطلق» (1967). واللافت أن أول كتاب أصدره كان «كتاب المئة» (1931) ويضم مئة جملة من «نهج البلاغة» للإمام علي وقد اختارها وعلق عليها انطلاقاً من شرح العلامة محمد عبده. وكان كاتبنا معجباً كل الإعجاب بـ «نهج البلاعة» وقد قال فيه: «إذا شاء أحد أن يشفي صبابة نفسه من كلام الإمام فليقبل عليه في «النهج» من الدفة إلى الدفة وليتعلم المشي على ضوء البلاغة».
لم تُقرأ كتب أمين نخلة النثرية الأخرى التي صنعت تراثه النثري مثلما قرئت «المفكرة الريفية» والأعمال الشعرية، وكادت «المفكرة» تطغى على ما عداها من النثر الذي لم يتمّ تقديمه كما يستحق أن يُقدم. ولعل في هذا الأمر إقلالاً من قيمة الأمين الناثر، مع أن «المفكرة» قد تمثل أوج الصنيع النثري النخلي جمالاً وفرادة وطرافة. فهذا النثر الذي يبدو، في جانبه الريفي بخاصة، أليفا وصافياً و «صبوحاً» وفق عبارة الكاتب نفسه عندما تحدث عن «الصباحة في الكلام»، هو نثر لا يخلو من ضروب الإيحاء والتلميح و «الإيماء الصافي» الذي يخالف «الإسهاب المبهم» كما يعبر الكاتب، ناهيك عن أسرار البلاغة والبديع والبيان وفنون التورية والموازنة والمطابقة والجناس والتوشية والمجاز…
ولا مبالغة في سوق هذه العناصر في الكلام على نثر الأمين الذي يخفي في صميمه خلاصة النثر العربي المجيد. فهذا الكاتب المحدث (جداً) كان تراثي الهوى، وسره إنما يكمن في قدرته الرهيبة على المزج بين شغفه بالتراث وهجسه بالحداثة ساعياً إلى إحياء التراث حداثياً. ومن يقرأ نثره جيداً يلمس كيف أن الجاحظ يلتقي ابن المقفع في قلب هذا الصنيع النخلي المشرع على قدرات النثر في لحظة مواجهته حداثة العصر. والشاهد على شغف الأمين بالتراث النثري وغوصه في أسراره، ووقوفه على فنونه، هو كتابه الفريد الذي شاءه مختارات من عيون النثر العربي وقد سماه «أساتذة النثر العربي» وفيه أعمل وعيه الحاد وذائقته الرهيفة بغية انتقاء ما رآه مواتياً من صفحات هذا النثر، وغايته تقديم صورة موجزة عن بدائعه وطرائفه. وقد أمضى «أمير الصناعتين» ردحاً من عمره ينتقي هذه الصفحات بتأنٍّ وروية. وأبرز ما في المختارات «تراجم» الأدباء أو سيرهم التي صاغها الأمين وكتبها بمهارته وظرفه المألوفين. وتندّ هذه «التراجم» عن سعة اطلاعه على الآراء النقدية التي رافقت أساطين النثر العربي القديم والجديد. فهي حوت أبرز ما قيل في هؤلاء طوال عصور وحقبات. وساق الأمين عبرها أخباراً ونادرات وأكثر من هوامشه معقّباً وشارحاً بعض المفردات والتعابير. فإذا «التراجم» والسير نصوص فنية ونقدية ممتعة ومفيدة في وقت واحد.
غير أن المختارات والنصوص التي رافقتها تكشف جانباً خافياً من ثقافة أمين نخلة وتجربته ومراسه، فهي تلقى ضوءاً على ذاكرته الأدبية وعلى مرجعيته النثرية القديمة والحديثة. وتغطي المختارات ما يقارب خمسة عشر قرناً، بدءاً من العصر الجاهلي. وفي هذا العصر يختار الأمين كاتبة مجهولة تدعى أم عصام. ويتوقف في صدر الإسلام أمام القرآن الكريم قائلاً: «إن النثر العربي ارتفع بالمصحف الى ما وراء الفكر وجاء الذروة التي تتقطع دونها الأعناق، فإنما القرآن هو المعجز في بلاغته، وأسلوبه، ولفظه، وحلاوة فواصله، وسوق معانيه، لا كلام في هذه العربية يبلغ مبالغه في ذلك كله». أما الحديث الشريف فيقول عنه: «كما ارتفع النثر بالقرآن إلى ما وراء الفكر، هكذا بلغ نهايات الإجادة في «الحديث» وهو كلام النبي العربي. فلقد تناهى «الحديث» في البلاغة، والرونق، وإشراق البيان، حتى لقد حق لابن عبدالله، وأيم الحق، أن يباهي بقوله: «أنا أفصح العرب»، وبقوله: «أوتيت جوامع الكلم». ويركّز أيضاً في صدر الإسلام على الإمام علي الذي كان اختار من كتابه «نهج البلاغة» مئة جملة جمعها في كتاب حمل عنوان «كتاب المئة».
ويكتب أمين نخلة عن الأدباء العرب الذين يختار من نتاجهم النثري معرّفاً بهم وبحياتهم وتآليفهم ويلقي ضوءاً على ما يمثلون من أهمية وأصالة، مستعيناً بأبرز ما قيل فيهم. ومن هؤلاء: ابن المقفع، عبدالحميد الكاتب، سهل بن هارون، الجاحظ، الأصبهاني، الهمذاني، المعرّي وابن خلدون… ومن عصر النهضة والأدب الحديث يختار: إبراهيم اليازجي، ولي الدين يكن، المنفلوطي، أحمد شاكر الكرمي، محمد السباعي، حافظ إبراهيم، أحمد شوقي، عبدالعزيز البشري، خليل مطران، عبدالقادر المازني وماري عجمي… وكان مفاجئاً إغفال الأمين ناثرين كباراً مثل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني وطه حسين وتوفيق الحكيم. هل نسيهم أم تناساهم؟ غير أن المعروف أن هذه المختارات وجدت ناقصة وقد سقطت منها أوراق كثيرة ومنها ربما المقدمة التي كان لا بد من وضعها لتكون مستهلاً لا تقوم المختارات من دونه.

نثر فني؟

هل يُسمى نثر أمين نخلة «نثراً فنياً» كما درجت العبارة؟ وفق الناقد المصري زكي مبارك في كتابه الضخم «النثر الفني في القرن الرابع»، وهو كان بجزءيه رسالته لنيل الدكتوراه من جامعة السوربون الفرنسية، يمكن تسمية النثر النخلي «فنياً» بصفته «نثراً يفرض نوعاً من الزخرف يهتم به علماء اللغة». ويخلص مبارك في كتابه إلى خصال هذا النثر الفني متكئاً على عيون النقد العربي القديم الذي رافق هذا النثر وشرحه، مستخلصاً له قواعد ومعايير. يسوق مبارك مثلاً عن الجوهري قوله: «أحسن الكلام نظاماً ما ثقبته يد الفكرة ونظمته الفطنة ووصل جوهر معانيه في سموط ألفاظه» (سموط جمع سمط وهو الخيط الذي تنظم فيه القلادة). وينقل مبارك عن العطار: «أطيب الكلام ما عُجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه ففاح نسيم نشقه وسطعت رائحة عبقه»، وعن الحداد: «خير الكلام ما نصبتَ عليه منفخة القريحة وأشعلتَ عليه نار البصيرة ثم أخرجته من فحم الأفحام ورققته بفطيس الإفهام» (الإفحام هو العجز عن الإفصاح والفطيس هو المطرقة)، وعن النجاد: «أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه وحسنت مطارح معانيه، فتنزهت في زرابيّ محاسنه عيون الناظرين وأصاخت لنمارق بهجته آذان السامعين» (الزرابي هي الأبسطة والنمارق هي الوسائد الصغيرة) وهكذا دواليك… ولعل هذه «الأوصاف» تنطبق بمعظمها على نثر الأمين، لكنها لا تغنيه عن المقاربات النقدية الحديثة، لا سيما الأسلوبية والشكلانية، التي بات ملحّاً اعتمادها لقراءة أدب نخلة قراءة جديدة متحررة من أسر النقد الوصفي والانطباعي الذي نعم به، وهذا نقد عاجز فعلاً عن الإلمام بخصائصه الفريدة.
لا يمكن البتة التغاضي عن كتب مثل «ذات العماد» و «أوراق مسافر» و «في الهواء الطلق» وسواها. هذه الكتب تتمثل روح التجربة التي خاضها نخلة في صميم النثر وتحمل نظراته المتعددة إلى مسائل الأدب حتى ليمكن من خلالها، كما من بعض مقاطع «المفكرة»، استخلاص نظرية هي النظرية النخلية في شؤون الأدب والصناعتين، النثرية والشعرية. كتاب «ذات العماد» يمثل مغامرة غير مألوفة نخلياً، فهو كتاب شاءه نخلة مماثلاً لـ «رسالة الغفران» ولكن، في منحى موضوعي ورمزي مختلف، فهو يسرد فيه حكاية الجبار شداد بن عاد الذي سعى إلى بناء مدينة ساحرة تقع على إحدى ضفاف الجنة ولكن، على سطح الأرض… وهي نفسها الحكاية القديمة والشائعة التي عاود جبران نفسه كتابتها في نصه «إرم ذات العماد» على طريقته الصوفية والباطنية التي تختلف كل الاختلاف عن طريقة نخلة. وقد تكون المقارنة بين النصين خير مدخل لاكتشاف الاختلاف الكبير بين هذين الكاتبين. غير أن وجه الشبه بين نخلة والمعري في «رسالة الغفران» هو أن نخلة يجول في نصه على أسماء أدبية وعلمية معالجاً قضايا عدة ومشكلات، والطريف تعريجه على لبنان بصفته بلد الرقي في شتى أبعاده… وكم يحتاج حقاً هذا الكتاب إلى أن يُقرأ نقدياً بغية كشف أسراره وطرائفه.
أما كتاب «أوراق مسافر» فهو يجسد فن «المقطوعة» كما تجلى في أدب نخلة مثله مثل «في الهواء الطلق». هذا الكاتب الجمالي النزعة كان سباقاً في إرساء هذا الفن غير المألوف كثيراً وفي منحه خصالاً جعلته يختلف عن «الشذرة» أو «المثل» و «الخاطرة»، أو ما يسمى «الكتابة الأفوريسمية». وفي هذه المقطوعات أعمل نخلة قلمه ببراعة قاطفاً الجمل قطفا بعيداً من شرك الشرح والإطالة. وقد يكون كتاب «أوراق مسافر» من أهم النصوص العربية التي تناولت موضوعة السفر في أبعادها الفكرية والوجودية والوجدانية. إنها أوراق تتأمل في «السفر» بصفته سفراً في المكان واللامكان، واختباراً حيا لفكرة الانتقال والعبور وما ينجم عنهما من مكابدة في الروح والجسد، في المزاج والدخيلة.
أما كتاب «تحت قناطر أرسطو» و «كتاب الملوك» فيضمان مقالات حبّرها الأمين في ظروف عدة، بعضها في النقد الأدبي وبعضها في رسم الوجوه الأدبية والسياسية أو «البورتريهات» وسواها. وهذه أيضاً لا تخلو من «اللذة» التي تتركها نصوص نخلة في نفس القارئ ووجدانه.
استهل أمين نخلة مساره النثري في «كتاب المئة» الذي ضمّنه مئة جملة من «نهج البلاغة» للإمام علي وختمه بـ «أمثال الإنجيل» وهو كتاب يضم مختارات من «الإنجيل» عمد نخلة إلى ترجمتها أو تعريبها للأحرى، مضاهياً بها الصيغة الإنجيلية التي بلغت ذروتها الجمالية مع إبراهيم اليازجي. هكذا كان قدر أمين نخلة أن يشتق مساره الإبداعي بين «نهج البلاغة» وتعريب «الإنجيل» عن اللغة الفرنسية التي كانت نافذته على أدب الحداثة.

صجيفة الحياة اللندنية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى