أمّة.. بحاجة إلى أعدائها

فاتنا القطار. من أزمنة، مضى من دوننا. في العراء نحن، كأننا «في كل وادٍ يهيمون». «خبطَ عشواءَ» نحن، كأننا «وإنَّا إليه راجعون». احتفال دموي بالنهايات، نقتتل على فتات، نحوّل الآيات إلى قذائف، ونبشر بالموت والقتل، كالقراصنة بين الطوائف.

من حولنا، دول لا ريب فيها. عندنا، حالة مدمنة من الفقدان: الحرية عوقبت لأنها أومأت إلينا. لم نقبل تحيتها. حززنا عنقها. ما تبقى منها، اغتصبته السلطة لتكون «حرة» من أي قيد، أو عين تراقب، أو كلمة تحاسب، أو غضب يشاغب… الحرية مرّت من هنا. شهداؤها يشهدون على دمها وعلى دمهم. لا الغرب شاءها ولا «أحبار الأمة» القدامى، ولا «عتاة العسكر» يريدونها. هي شغب واعتقالها واجب، لسلامة المصالح باسم الدين والعقيدة والحزب والعشيرة والطائفة…

من حولنا، أمم مكتملة النصاب. شعب وأرض وثقافة ونظام. الأمة، ظلَّت مكتومة في كتب. منعت من سلوك الطريق إلى الوحدة. عشنا قطعاناً في كيانات. عشنا كيانات ضد كيانات. مارسنا الانحطاط السياسي والغدر الأخوي. حروب الكيانات لمزيد الفرقة، وتأكيد حرم «سايكس ـ بيكو»: الحدود ممنوع لمسُها. فما مسَّت إلا مراراً مُرَّة». الكيانات حصون عائلات مالكة وإقطاع سحيق وعسكر ساحق. وفيما كانت إيران أمّة ودولة وشعباً، وتركيا أمة ودولة وشعباً ونظاماً، وفيما كانت «إسرائيل» العدو، تجرم وتقاتل، من أجل دولة في أرض لشعب ملموم من أطراف القارات، وفي نظام عنصري فريد… فيما كان كل ذلك كذلك، كنا «آخر أمة أخرجت للناس»، فتوزعتنا المصالح والطوائف والعشائر إمارات وممالك وكيانات، تعرج دائماً، وبحاجة إلى مَن يحميها من شعوبها ومن أحرارها. لقد فاتنا قطار الوحدة كما فاتنا قطار الحرية… وها نحن في الدم.

ونحن نعزو أسباب تخلفنا إلى سوانا، فنحن أبرياء من دمنا. غلط. الاستعمار فبرك «سايكس ـ بيكو»، ونحن قدَّسناه. صار هيكلاً لا يُمَسّ. «الوحدويون» أشد ضراوة في تأكيد خطوط الفصل بين «الشعب الواحد في بلدين». دمشق وبغداد، نموذجاً. مصر والسودان، نموذجاً آخر. المغرب العربي، ما بين «البوليساريو» والجزائر. و «هكذا دوالينا». ثم، استدعينا مَن يُحامي عنا، كل نظام له من يحميه. نادرة الدول التي تنكّرت لمستعمريها. عبد الناصر دفع الثمن، وترك وحيداً في الميدان، إلى أن سقط فورثته الرجعية والكيانية… كل نظام إزاء أخيه، كأنّه «تأبط شراً… ونعزو فشلنا إلى قيام «دولة إسرائيل». غلط. لم نقاتلها كدول، بل ساومناها على حصص وسلامة. ولما قاتلناها كشعب، انهالت دول وأنظمة لطعن المقاومة في الظهر والصدر، بلا شعور بذنب. فالنظام أهم من فلسطين. العقيدة أرفع منها. الدين قبلها وبعدها.

ونتساءل، لماذا يجتمع العالم لإيجاد حل سلميّ لليمن والعراق وسوريا وليبيا؟ العرب، لا مكان إقامة لهم. ليسوا دولاً، بل كيانات على قياس عائلات مالكة، وإمارات متوارثة، وأنظمة متهالكة، وعقائد متقاعدة، وعساكر، كل نياشينها جوائز في معارك اضطهاد شعوبها.

فاتنا قطار بناء الوحدة، فاتنا أن نحيا بحريّة بناءة. فاتنا أن نقيم دولاً، ونجحنا في تأبيد أنظمة وتعقيم شعب وإبادة آمال. نجحنا في تأجيل الحلول ومنع الديموقراطية، وانشغلنا في ابتداع وسائل قمع وإعلام قمع وتشويه، وتخصّصنا في تعميم الثقافة الحثالة، الخادمة لأغراض السلطة. نجحنا في جعل الكيانات بطابقَيْن، طابق الأقلية الضئيلة المتخمة سلطة ومالاً ونفوذاً وقمعاً، وطابق الأكثرية المسحوقة، التي تقيم في قاع غير مرئي. انفجر ذات ربيع، وبات ينفجر ويفجّر كل ما تبقى من قبيح وجميل.

فيما كانت إيران الشاه دولة مكتملة الحضور، ثم باتت دولة إسلامية بولاية فقهية، تنمو وتنجح وتتطوَّر، وتجد ديموقراطية تناسبها، وتذهب إلى ممارسة السياسة وفقاً لنصوص الدستور، انتخاباً واقتراعاً ومؤسسات وسلطة، تغيِّر بإرادة شعبها… وفيما كانت تركيا الكمالية، تنتقل من سلطة إلى أخرى، مدنية فعسكرية، وصلت إلى ديموقراطية علمانية مطعمة بسلطة «اخوانية»، لتبقى صاحبة الكلمة الأولى في ما يخصّها من قضايا، وصاحبة الكلمة المسموعة في ما يخصّها من حولها… وفيما كانت «إسرائيل» دولة احتلال واستيطان، في حالة حرب أو في حالة شنّ الحرب، تستمر كدولة ديموقراطية، تبدّل طاقمها السياسي والحزبي وفق آلية الانتخاب ومنطق المحاسبة والمساءلة، وتمارس عدوانها وتشن حروبها بإرادة شعوبها… فيما كان كل ذلك يجري من حولنا، كنا كالهنود الحمر، نرقص حول النيران التي تلتهم أطرافنا البعيدة عنا، حتى بلغت ذات لحظة، أجسادنا، فبتنا نحتفل بالحرائق، ونستدعي دولاً معادية لتنقذنا من حريق، كنا حتماً من أسباب اشتعاله وفائض نيرانه. أليس هذا هو المشهد في ليبيا؟ أليس هذا هو المشهد المشرقي برمّته؟

ما أيأسنا عندما نعلن أن الحريق مؤامرة خارجية، وأن «داعش» صناعة أميركية، وأن الإسلام الجهادي ممهور بطابع غربي.

وما أعظم بؤسنا عندما نصدّق ما نكذبه نحن… هذا الذي فينا، هو منا، قبل أن يبلغ غيرنا خبره. الاستعمار مذنب. هو مرتكب الخطيئة السياسية الأصلية فينا، تقسيماً ووعداً (بلفور) واستئثاراً ونهباً. ولكن خطايانا اللاحقة والسابقة هي مِن جنسنا السياسي. مَن قتل الوحدة الأولى؟ مَن ربط الأنظمة بتحالفات غربية (ايزنهاور)؟ مَن تحالَف مع حماته البريطانيين والأميركيين والفرنسيين؟ مَن قاتل وقتل شعوبه؟
نحن فعلنا ما بنا. وبلغنا ما نحن عليه من عراء دامٍ، لا نجاة فيه.

هل فاتنا القطار نهائياً؟

يبدو ذلك. القارات الخمس تتّجه دولها إلى مزيد من أشكال التكتلات والاتحادات، باستثناء العرب. لديهم «جامعة عربية» مفلسة. آخر إبداعاتها، توجيه دعوات لدول كي تساهم في حروبها على ليبيا وعلى سوريا. فيا «أمة ضحكت من حكمها الأمم».

الحلول المقترحة من العالم ودول الإقليم ستكون أسوأ من «سايكس ـ بيكو». سيتم تقسيم الكيانات على قاعدة التعدد الاثني والديني والعشائري من دون المساس بالإرث الانكلو ـ فرنسي. وعندما يبرز السؤال «مَن تبقى لمواجهة إسرائيل؟ العراق؟ سوريا؟ مصر؟ مَن سيقول «لا» لأميركا وإسرائيل معاً؟ لقد تمّ تدمير العراق وإحراق سوريا وإشعال اليمن، بأيدينا وأيدي حلفائنا، شرقاً وغرباً. لم نبقِ على كيان، في جدول اهتماماته الصمود في مواجهة إسرائيل.

تباً. لقد أشعلنا حروباً بشعارات، ودافعنا عن أنظمة بشعارات، ولم يفُز فيها غير «داعش» و «إسرائيل».

فاتنا القطار… نحن الآن في العراء، ننتظر روسيا وأميركا وتركيا وإيران والسعودية وقطر و… هلم جراً، كي يخترعوا لنا صيغة تبقي جثة العرب على قيد الحياة، بشروط الوفاة.

هل نستحقّ هذا المصير؟

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى