أم الدنيا.. قصة القاهرة في 1300 سنة (محمد الحمامصي)

 

محمد الحمامصي

 
في مزج رائع بين النص والفوتوغرافيا بين عبق التاريخ وسحر الجغرافيا، بين دقة التخطيط وروعة التشييد، يجول بنا هذا الكتاب "مصر أم الدنيا.. قصة القاهرة في 1300" الصادر عن هيئة الكتاب للدكتورة نللي حنا أستاذ الدراسات العربية بالجامعة الأميركية بالقاهرة، وتصوير رندا شعث، في سياحة ممتعة لشوارع مدينة القاهرة ترسم لنا ما تبقى من العواصم القديمة التي سبقت القاهرة اليوم: من الفسطاط، والعسكر، والقطائع إلى القاهرة المعزية، لنجد أنفسنا نتجول في الشوارع والحارات القديمة والمباني الأثرية التي يرجع تاريخها إلى عصور مضت، لنكمل السير منها إلى الأحياء التي شيدت حديثا، فتشهد التسلسل الزمني للحقب التي تعاقبت على هذه المدينة العريقة والذي يجسد التكامل بين الماضي والحاضر ويدشن كذلك الحلم بالمستقبل.
تقول د. نللي حنا أن "القاهرة التي نعرفها ليست مدينة واحدة بل هي في الأصل أربع مدن، أنشئت الواحدة بعد الأخرى، ثم اندمجت هذه المدن الأربع حتى صارت مدينة واحدة، وهي ليست مدينة الملايين التي يسكنونها اليوم فقط، ولكنها أيضا مدينة الملايين التي سكنوها في قرون ماضية جيلا بعد جيل، ومارسوا حياتهم اليومية، وبنوا وشيدوا ونتيجة لذلك امتدت المدينة، وتعددت أحياؤها التي بقي بعضها حتى اليوم، وتهدم البعض الآخر أحيانا، بعد أن هجره سكانه، وهكذا تركوا بصمات عصرهم على المدينة، وقد أثرت العديد من العوامل المحلية والخارجية على شكل المدينة وتخطيطها وحجمها، وتبلورت خصائصها من خلال الظروف التاريخية التي مرت بها في مختلف العصور حتى صارت العاصمة التي نعرفها الآن.
وقد تناولت د. نللي العاصمة المصرية منذ الفسطاط وانتهاء بالقاهرة في العصر الحديث، موضحة الإنشاء والتأسيس والتطورات التخطيطية والسكانية والوظيفية التي جرت.

• الفسطاط

العاصمة الأولى التي سميت "مصر" و"مصر القديمة" و"مصر العتيقة" فيما بعد، أنشأها "عمرو بن العاص" سنة 20 هـ/ 641 وهي أول مرحلة في حياة العاصمة التي نعرفها نحن الآن، بدأت منذ ألف وثلاثمائة سنة، عندما دخل "عمرو بن العاص" مصر وفتحها وانتزعها من سيطرة امبراطورية الروم، وقد اتخذ "عمرو بن العاص" مقرا من حصن بابليون الذي مازلت بقاياه موجودة حتى الآن بمصر القديمة، بجوار الكنيسة المعلقة، وبعد أن استقر هناك، بدأ في إنشاء عاصمة جديدة لتحل محل الاسكندرية عاصمة في عصر امبراطورية الروم.
ربما اختار "عمرو بن العاص" موقع الفسطاط لأنه يشرف على دلتا النيل حيث يلتقي جنوب الوادي وشماله، وهو موقع عرف ـ منذ قديم الزمن ـ بأهميته الجغرافية، إذ أنشئت فيه عدة مدن قديمة مثل مدينة "منفيس" ومدينة "عين شمس" ومدينة "هليوبوليس"، بل كانت العاصمة ـ دائما ـ في هذا الموقع، باستثناء فترتين كانت عاصمة مصر ـ طيبة ـ في الصعيد ثم الاسكندرية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ومن جانب كان الموقع الذي اختاره "عمرو بن العاص" لإنشاء عاصمته الجديدة يسهل الدفاع عنه لأسباب جغرافية، فالنيل من غربه وجبل المقطم من شرقه، يكونان حاجزين طبيعيين ضد أي هجوم.

• العسكر

وفي سنة 133هـ / 750، بعد مائة وعشر سنين تقريبا من إنشاء الفسطاط أنشأت مدينة أخرى بالقرب منها كانت العاصمة الثانية الإسلامية، ولعل سبب إنشائها هو انتقال السلطة من الخلفاء الأمويين في دمشق إلى العباسيين في بغداد، قد انعكس الصراع على السلطة بين الأمويين والعباسيين على مدينة الفسطاط، حيث انتشر النزاع بين الطرفين، وأحقرت بعض أجزاء من العاصمة.
ولقد أنشأ العسكرَ أبو العون وهو أول من ولاه الخليفة العباسي ليحكم مصر بالانابة عنه، وربما كان سبب انشأه مدينة العسكر هو احتياج الجيش الذي يحضره معه إلى موقع خاص به، فأصبحت العسكر عاصمة لمصر، ونقل إليها دار الإمارة التي بنبت بجوار جامع العسكر، وسكن الحاكم، وبعد ذلك اتسع العمران بالعسكر، وعظمت فيها العمارة وشيدت المنازل والقصور والمساجد والحمامات حتى اتصلت بالفسطاط، وأصبحت المدينتان مدينة واحدة واسعة، وظلت العسكر عاصمة لمدة تقرب من مائة وعشرين سنة، وقد حكم مصر منها 65 واليا بالنيابة عن الخليفة العباسي إلى أن أسس ابن طولون "الدولة الطولونية" فلم يتبق منها شيء، ويرجح أن موقعها كان بالقرب من ميدان "السيدة زينب" ـ رضي الله عنها ـ الحالي، أي بين جامعي "عمرو بن العاص" و"ابن طولون".

• القطائع

أسسها أحمد بن طولون وأصبحت عاصمة مصر طوال مدة حكم آل طولون، وسبب تسميتها بالقطائع هو أنها قسمت إلى عدة أحياء أو قطع كل قطعة مخصصة لطائفة من الجنود مثل قطعة السودان وقطعة الروم، وكانت مدينة القطائع تتبع نفس تخطيط العاصمتين السابقتين من حيث تكتل المباني حول الجامع ودار الإمارة وسكن الحاكم، وانتقل إلى العاصمة الجديدة كل من له صلة بالحكم أو إدارة البلاد، وأفراد الجيش، ولم يكن مسموحا للعامة بالسكن فيها، بل كان مسموح بذلك لأتباع ابن طولون وجنوده ورجال الدولة وأسرهم، وظل بقية أفراد الشعب من عمال وتجار وبائعين وغيرهم في الفسطاط والعسكر. وظلت القطائع عاصمة لمصر طوال حكم آل طولون الذي دام سبعة وثلاثين عاما أي حتى سنة 293 هـ / 905.
• القاهرة المعزية
العاصمة الرابعة هي القاهرة المعزية التي أمر بإنشائها المعز لدين الله الفاطمي لتكون عاصمة ليس فقط لمصر، ولكن لتكون عاصمة الخلافة الفاطمية بدلا من عاصمتها التي كانت تعرف بالقيروان في تونس، ففي سنة 358 هـ / 969، بعد 64 سنة من خراب القطائع أرسل الخليفة المعز جيشا بقيادة جوهر الصقلي بهدف السيطرة على البلاد وبناء مدينة جديدة تكون عاصمة الخلافة، وبدأ الصقلي في بناء المدينة فورا وقد اختار موقعها على بعد نحو كيلومترين شمالي شرق المدينة، وذلك بعد أن بشره المنجمون بذلك، بدأ ببناء سور ثم أنشأ الجامع الأزهر ولم تتجاوز مساحة المدينة حينذاك الكيلومتر المربع، وقد حضر الخليفة المعز من بلاد المغرب بعد ذلك هو وأفراد عائلته وحاشيته وحضر معه الكثيرون ليستقروا وأحضر المعز معه أيضا توابيت فيها جثث آبائه ليعيد دفنهم في مقبرة داخل القصر، أصبحت بعد ذلك مدفنا خاصا للخلفاء وأولادهم، كما استقر في القاهرة الجنود والقبائل التي جاءت معه، وكان لكل قبيلة حارة خاصة بها، فكانت هناك حارة زويلة والجوانية وغيرهما، ومازالت الحارات موجودة بالقاهرة في الجزء الذي يقع داخل الأسوار الفاطمية.

• القاهرة في العصر الحديث

عرفت القاهرة في العصر الحديث خلال القرنين 19 و20 عددا من التغيرات الجذرية في تنظيم الشوارع وفي شكل المباني، وبالرغم من أن أغلبية هذه التغييرات لم يظهر في أوائل القرن التاسع عشر فقد بدأت ظواهر مهمة في هذه الفترة نتيجة الحملة الفرنسية على مصر، ولسياسات محمد على باشا في تحديث القاهرة من خلال النظم الغربية، فقد قرر محمد علي أن يشق شارعا عريضا ومستقيما يربط بين القلعة والأزبكية هو شارع محمد علي، وكان أول شارع من هذا النمط يشق داخل القاهرة، فقد ربط بين منطقتين مهمتين ولكن في نفس الوقت تسبب في هدم العديد من المباني، وعندما بنى محمد علي قصره في شبرا عام 1808 شق طريقا آخر بين القاهرة وشبرا وغرس أشجار الجميز واللبخ على جانبي الطريق، وهذا الطريق هو ما يسمى شارع شبرا الآن، وقد عمل مثله بين القاهرة وبولاق فكان من الطبيعي أن يمتد العمران على جانبي طريق شبرا وفي شبرا نفسها، وكان محمد علي أول من اتخذ النمط الغربي للبناء حين بنى قصره في شبرا ونظمت حدائقه على النمط الفرنسي.

• النمط الجديد للأحياء

وتواصل د. نللي حنا لتختتم كتابها عند النمط الجديد للأحياء "شيدت الأحياء الجديدة على نمط يخالف تماما النمط القديم المتبع في القاهرة حتى عصر محمد علي باشا، أي النمط المعتمد على الشارع العام الذي يتركز فيه العديد من الأنشطة الاقتصادية والمنافع العامة وتتفرع منه الحارات، فقد كانت الشوارع التي شقت حديثا كلها شوارع واسعة ومستقيمة وجميعها مفتوحة ليس بها حارات أو دروب مسدودة طبقا لتخطيط هندسي على النمط الغربي، وأنشئت أيضا في الأحياء الجديدة الميادين الواسعة كميدان الاسماعيلية الذي أنشأه الخديوي إسماعيل وهو ما يسمى بميدان التحرير الآن، والحدائق العامة مثل حديقة الحيوان وحديقة الأورمان".
"ولقد تميز شكل المباني في الأحياء الحديث واتبع النمط الغربي في البناء والمعروف أن محمد علي قد أصدر أوامره بمنع إقامة المشربيات وأن يستعمل الناس ألواح الزجاج على الشبابيك كما هو متبع في بلاد الغرب، فبطلت المشربيات في البيوت والبروز والكوابيل التي بواجهاتها. وكان لاتساع المدينة وخلق النمط الجديد في الأحياء الحديثة الإنشاء أثر على الأحياء القديمة، إذ أدى إلى تحويل مركز النشاط التجاري من بين القصرين إلى وسط المدينة الحالي، أي المنطقة التي تضم شوارع قصر النيل وطلعت حرب ومحمد فريد وبهذا انتقل إلى وسط المدينة القديمة سوى بعض الصناعات التقليدية كالنحاس وصناعات خان الخليلي والصباغة.
وتختتم نللي حنا قائلة: "بإمكاننا أن نتمشي في شوارع مدينة القاهرة التي سبقت قاهرة اليوم من الفسطاط والقطائع والقطائع إلى القاهرة المعزية، ونستطيع أن نرى ما تبقى من الشوارع والحارات القديمة والمباني الأثرية التي يرجع تاريخها إلى عصور مضت ومن تلك المناطق نكمل السير إلى الأحياء التي شيدت حديثا وهكذا، نشهد التسلسل الزمني للفترات التي تعاقبت على هذه المدينة العريقة ونتعرف على التكامل بين الماضي والحاضر ونحلم بالمستقبل".

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى