أم الزمن

وهي تغني لروحها…غنّت أم كلثوم لكل شيء

ـ 1 ـ

كانت الشمس سيدة الموسيقى، حتى أتت الريح وصارت هي سيدة الموسيقى.

حزنت الشمس حزناً شديداً، فقررت العصافير أن تقدم كل صباح وكل مساء كونشرتو لسيدة الموسيقى المضيئة.

كنت، سابقاً، وأنا أكتب أستل سيجارة كلما هربت فكرة، وأعتقد أن الدخان هوعلامة اشتعال اللغة، إلى أن تركت السجائر مرغماً…فصرت أضغط على زر أغنية من أوركسترا الماضي، أو موسيقى من غياهب القرون. فتفتح لي الفكرة نوافذها ومن هناك يبدأ كونشرتو الطيور.

ـ 2 ـ

خاصمت أم كلثوم الملحن محمد القصبجي.( بالحقيقة، العاشق القصبجي)، واستمر الخصام على شكل قطيعة نهائية مدة طويلة. ثم تصالحا، فلحن لها أغنية “رق الحبيب” وقد كتبها الشاعر أحمد رامي ـ العاشق الآخر لأم كلثوم…فخرجت الأغنية، ليس من فتنة الشعر، ولا من سحر الموسيقى… وإنما من قلب قلب العاشقين…الثلاثه .

حين قدمت أم كلثوم هذه الأغنية في حفلتها الأولى لم تكن تغني، وإنما تصرخ بصوت منكوب وسعيد في وقت واحد ، كأنما لتقول للعشاق ” إن الفراق قصة رديئة”. وكأنما لتبث في عالم الحب صوت إنذار العذاب الناتج عن قطيعة بين عاشقين.

عندما تصل أم كلثوم إلى مقطع

“إيه يفيد الزمن، مع اللي عاش في الخيال؟واللي في قلبو شجن أنعم عليه بالوصال”… تقيم موسيقى القصبجي كرنفالاً من الآلات الموشكة على تقطيع أوتارها ، وتحاول ام كلثوم ان تفتت الصخر .

هكذا يمكن تكرار هذه الجملة التي قالها احد الموسيقيين من العصور الوسطى:

“لولا الموسيقى كانت الحياة مجرد غلطة”.

ـ 3 ـ

ماتت أم كلثوم، فخرج في جنازتها كل من خرج من الباقين أحياء في جنازة عبد الناصر، مضافاً إليهم الأجيال الشابة الأخرى.

كان قرب التابوت رجل بطيء الخطى، على عينيه نظارة سوداء، ويبدو على وشك السقوط … كان الشاعر أحمد رامي.

عندما عاد إلى بيته كوحيد، من الآن فصاعداً، أشعل شمعة، وجلس يكتب رثاء لأم كلثوم:

ما دار في خاطري أني سأرثيها بعد الذي صغت من أشجى أغانيها
قد كنت أسمعها تشدو فتطربني واليوم أسمعني أبكي وأبكيها
صحبتها من ضحى عمري وعشت لها أذوّب شهد المعاني ثم أهديها
سلافة من جنى فكري وعاطفتي أديرها حول أرواحٍ تناديها

ـ 4 ـ

لم يكن يلزم لاعتقال فتاة عمرها 25 سنة…ضابط وخمسة جنود، وقسوة بحجم عداوة مسبقة.

كان يكفي الطلب إليها تخفيض صوت التلفزيون وهو يبث أغنية لأم كلثوم من أغاني الستينات المصورة بالأبيض والأسود…في قاعة مكتظة بالجمهور الذي لا يوجد فيه إمرأة واحدة محجبة.

لقد عوملت “كنده” كعدو سلفاً… وسلفي.

وعندما خرجت معهم إلى المجهول، استغرب الضابط أنها ليست محجبة. وما تزال تدندن مع أم كلثوم “… وإيه يفيد الزمن…؟ ”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى