أنا جندي سوري

المغدور أنا في حلب وفي جسر الشغور ودير الزور. المخذول مرات مثل كل سوري أنا، أتربص للنار وللبرد والأمل. ومثلهم أنا، مقاتل أو مقتول.

محمولاً على الأكتاف أعود، إما في موتي والارتقاء.. أو محتفلا بانتصار. خياران هما، ولا ثالث لي. ولا قصيدة لي، سوى ما زغردت به نساء القرية بما تيسر من أهازيج.

فمتى تشهدون لي أن لا شيء لي؟ لم أطلب نصباً تذكارياً ولا راتباً أو مزايا، ولا اختصرت انتظارات الحبيبة لعودتي من الخنادق. وكلما طالبت برصاصة، انتزعت ساعة من عمري، ومنحتكم يوماً للحياة.

لا شيء لي حقاً في الحرب. دخلت هذه الفاجعة، يافعاً، والآن يغزو البياض شعر رأسي. ما سددت باباً أمام الموت، إلا وفتحوا علينا براكين حقدهم. كل العالم طالب برأسي، حياً أو ميتاً. الشام، أمي، أرادوها ذبيحة مسبية، وجريمتي، أنا الجندي السوري، أنها موطني وبيتي وأرجوحة قلبي، فلمن أقاتل اذا لم يكن لها وعنها؟!

أنا لست أنا. لم أعد كما جرّبتم بتشويه وجهي في ما مضى. أنا الآن معجزتكم أمام الأنبياء…وكل الأدعياء. أنا، إن تمعنتم قليلا، غدكم عندما سيشرق لكم وطن، وسيتمتم بعضكم مواربة: لولاه لما كنا هنا نستطيب بعض ما لدينا. أنا غدكم، ولو كنت في بطن أرض، جرّبت، بما استطعت من بندقية، وحلم، أن أترك فيكم، ما لن تضلوا بعدها: سوريا؛ فهذه حقولها وغاباتها وسهولها، وما هو أبعد منها من بلاد، بلا أبالسة الدين والجهل.

أنا جندي سوري، إن تأففت قليلاً فاعلموا أن لقلبي قدرة على احتمالات لا تتسع لها أعوام خمسة من الصبر، فتحملوني قليلا، وأنا من خندق الى آخر، ومن جبهة الى اخرى، ومن جبل الى واد، ومن عطش الى جوع، ومن وجع الخيانات وغدر المهووسين المتأسلمين، أفكر فيكم بما تيسر لي من لحظات ما بين استراحتي كمحارب، وتعبي من سفر الغيوم، وألمي من تشرّد فراشات الشام.

لا شيء لي في هذه الحرب، فلا تلوموني إن أخطأت مرات. من كان منكم بـ «حرب نظيفة» فليرجمني بحجر. دلوني على جيوش الملائكة والطهارة، وأنا لست من المذنبين إن أخطأ بعضنا وزيّن له هذا كل هذا الخراب، فرصة.

ولا تلوموني إن مت من جرح الرصاصات وما تبقى من جسدي للشظايا. وخففوا من عبء الملامة علي، إن انكسرت أحياناً، إن سقطت، أو أُسرت. كل سيوف الأعراب والعالم تحاربني وليس لي من بين إخوة يوسف، حبيب، سوى قلة.

فلا تقتلوني مرتين. هذا النصر، عندما سيأتي، لي ـ ولكم ـ وقد رقد بقربي أشقاء من بلاد الأحبة تكسرت رماحهم وهم يذودون عن ثغور الشام وسلمى وحلب، ولهم في قلبها، مثلما هو لي، زنابق وياسمين. نحن نهديكم خلود الوطن، فاذكروهم في غدكم، كما ستذكرونني، فتى يافعاً بلا خطايا. وارفعوا إن شئتم، صورنا المنسية، واغفروا ما تقدم من ذنبنا وما تأخر، ورددوا على ما تبقى من أرواحنا، بعضاً من أعذب الأهازيج.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى