أنظر إلى هاتفك الخليوي بغضب … إنه يتجسس عليك
بعد الاعتذار من الكاتب البريطاني جون أوزبورن ومسرحيته الانتقادية «أنظر وراءك بغضب» التي وضعها في النصف الثاني من القرن العشرين لنقد الاستسلام لثقافة سائدة، ربما آن الوقت أن تسترجع في رأسك عنوان تلك المسرحية كلما نظرت إلى هاتفك المحمول! كم مرّة تنظر إلى الخليوي يومياً؟ كم مرّة يجب عليك (ربما) أن تغضب؟
لماذا كل تلك النقمة؟ ببساطة لأن ذلك الجهاز ليس سوى جاسوس يراقبك على مدار الساعة، والأنكى أنه يتباهى بذلك العمل، بل يقدمه في حلل بهية تحيط بها هالات خلابة من التقنيات وسحرها الذي يأسر العقول والمخيلات حاضراً.
وتسري في القلب مرارة من عدم اهتمام الإعلام العام العربي بتحفيز الجمهور على التفكير نقدياً في الخليوي ومعطياته، فيما يتصاعد ذلك النقد يومياً في معظم دول الغرب، وهي التي تصنع تلك الأداة وتقنياتها. يأتي أشد الانتقاد لمسارات ثورة الاتّصالات المعاصرة من الولايات المتحدة، وهي الحاضنة والصانعة لتلك الثورة وأدواتها وبرامجها وتقنياتها! أليس الأمر مريراً: صُناع التقدم التقني يفكرون نقدياً فيه، فيما تغرق دول استهلاك التقنيات في خدر الانبهار بالتقنيات؟
هناك مثل آخر. يكتفي معظم الإعلام العربي باعتبار الـ «هاكرز» مجرد مجرمين إلكترونيين وقراصنة رقميين، وكأنهم مجرد حفنة من هواة الإجرام. أليس أفضل التعمق في تلك الظاهرة، بدل الاكتفاء بالقشور؟
وفي الولايات المتحدة، لم تعد شركات المعلوماتيّة تنظر إلى الـ «هاكرز» بصفتهم مجرد عصابات، بل أقرّت بأهمية تلك الظاهرة. وصارت ترعى مؤتمرات للـ «هاكرز»، تستفيد الشركات منها، وتسمي أفرادها «هاكر أخلاقي» Ethical Hackers. وفي تلك المؤتمرات، يجري التعرّف إلى المهارات العالية التي يملكها أولئك الـ «هاكرز» المتمرّسون في عالم التقنيّة إلى حدّ القدرة على اختراق شبكات الاتّصالات ونُظُم الكومبيوتر.
اشتريته؟ ماذا قالوا لك؟
وماذا أخفوا عنك؟
في عام 2015، تمكّن أحد الـ «هاكرز الأخلاقيين» الأميركيّين من اختراق شبكات الاتّصالات، والسيطرة على سيارة فخمة، ووضعها تحت تصرفه من بُعد، وأخرجها من سيطرة سائقها الجالس خلف مقودها! ولم يكن ذلك ممكناً لولا جهاز الخليوي، الذي استخدم في الدخول إلى الشبكة ومنها إلى نظام الكومبيوتر في تلك السيارة الفخمة. وبذا، أطلق ذلك الـ «هاكر الأخلاقي» صفارة إنذار قويّة عن الأخطار الضخمة النائمة في بواطن الخليوي.
وفي عام 2014، بعثت الحكومة الأوكرانيّة بالرسالة النصيّة التاليّة التي تبدو كأنها منقولة من الرواية الشهيرة للكاتب جورج أورويل «1984» التي تخيلت ظهور مجتمع تمارس فيه رقابة جماعية على أفراده على مدار الساعة. جاء في نص تلك الرسالة: «عزيزي المشترك، جرى تسجيلك كمشارك في شغب جماعي». وحصلت الحكومة الأوكرانيّة على معلومات عمن تجمهروا ضدّها من اتّصال هواتفهم بأبراج شبكة الخليوي في منطقة التجمهر.
لا يذهب بك الظنّ بأن ذلك السلوك يقتصر على البلدان التي تحكمها نُظُم شموليّة وحدها. في عام 2010، سعى البوليس في ولاية ميتشغن الأميركيّة إلى الحصول على أرقام هواتف كل من كانوا قرب مكان إضراب عمالي متوقّع، ولم يكترث البوليس بالحصول على مذكرة قضائيّة في ذلك الشأن.
في كل صباح تضع فيه الخليوي في جيبك، تذكّر أنّك تعقد صفقة غير معلنة تقول: «أريد أن أتبادل المكالمات عبر الخليوي، وبالمقابل أسمح للشركة التي تعطيني خدمات الخليوي بأن تعرّف أمكنة وجودي بدقّة على مدار الساعة». لا تظهر كلمات تلك الصفقة في أي عقد كان، لكنها راسخة في قلب عمل خدمات الخليوي. الأرجح أنك لم تفكّر في تلك الصفقة من قَبْلْ، لكنك ربما صرت تفكر بها بعد أن ذُكِرَتْ لك.
إذاً، يصح القول أنّ الخليوي ابتكار عظيم، لكنه لا يعمل من دون أن تعرف شركات الخليوي مكان وجودك دوماً، ما يعني إبقاءك تحت رقابتها المستمرة على مدار الساعة! ويمثّل ذلك الأمر رقابة لصيقةً تماماً. إذ يتتبع الخليوي أمكنة عيشك وعملك. ويتتبّع الأمكنة التي تميل لقضاء الأمسيات والعطل الأسبوعيّة فيها. ويتتبّع وتيرة حضورك إلى الأمكنة الدينيّة (بل يحدّدها بدّقة)، والمدّة التي تقضيها في المقصف، ويرصد سرعتك أثناء قيادتك السيارة. وبحكم معرفته الأجهزة الأخرى، يتتبّع أيضاً الأشخاص الذين تقضي أيامك معهم، ومن تلتقيهم على وجبة الغداء، بل من يشاركك غرفة نومك!
إعلانات في لحظة الشراء
والأرجح أن تجميع تلك المعلومات يفضي إلى رسم صورة عن طريقتك في قضاء الوقت، بأفضل مما تستطيع أنت، لأنها صورة غير معتمدة على الذاكرة البشريّة. في عام 2012، استطاع بحّاثة أن يتوقّعوا أين ستقضي الناس أوقاتها في الـ24 ساعة التالية، وضمن مسافة 20 متراً.
قبل الخليوي، إذا رغب طرف ما في معرفة تلك المعلومات كلها، لربما توجّب عليه أن يستأجر محقّقاً خاصاً كي يلاحقك باستمرار مسجّلاً الملاحظات عنك. وباتت تلك مهنة بالية الآن؛ إذ يفعل الخليوي المستقر في جيبك تلك الأمور كلها، أوتوماتيكياً. ربما لا يستخرج أحد تلك المعلومات، لكنها موجودة بتصرف من يلتقطها.
تمثّل المعلومات عن أمكنة تواجدك شيئاً قيّماً، بل تسعى أطراف كثيرة إلى الوصول إليها. إذ يساعد تحليل المعلومات في التحقيقات الجنائيّة، بطرق متنوّعة. ويستطيع البوليس أن «يفتح» هاتف معيّن لتحديد مكانه، ويجمع معلومات عن الأمكنة التي تواجد فيها في الساعات أو الأيام أو الأسابيع السابقة، ويجمع تلك البيانات مع معلومات عن الهواتف في منطقة محدّدة كي يعرف الأشخاص الذين كانوا في تلك المنطقة، وأوقات تواجدهم فيها.
وبصورة متصاعدة، صار البوليس يستخدم معلومات الخليوي لتحقيق تلك الأهداف. وليس غريباً أن تعمد حكومات إلى استخدام المعلومات التي تجمعها شركات الاتّصالات المتطوّرة في ممارسة أشكال متنوّعة من الرقابة الواسعة. والأرجح أنّ الوصف عينه ينطبق على شركات الإنترنت، لكن ذلك يستوجب نقاشاً منفصلاً.
صحيفة الحياة اللندنية