كتب

أنقرة السبعينيات تطل من وراء ‘سقوط شجرة الحور’

أنقرة السبعينيات تطل من وراء ‘سقوط شجرة الحور’… في الستينيات من القرن العشرين ظهرت أولى أعمال الروائية التركية سيفحي سويسال إلى النور، وفي كتاباتها حرصت على تناول تفاصيل الحياة اليومية ووصفها بدقة شديدة، فضلا عن تناول موضوعات كالأزمات الوجودية والاشتراكية وموضوعات المدينة وما يداخلها من أحياء وغيرها. أعطت نصيبا كبيرا من كتاباتها للحياة اليومية الحقيقية، كذلك تعتبر فترة السبعينيات وما بعدها أزهى الفترات بالنسبة لكتاباتها، كما اهتمت بالكتابة عن المرأة وناقشت حقوقها. وهذه الرواية “سقوط شجرة الحور” تندرج تحت هذه التجليات في كتبتها، حيث التفاصيل الصغيرة للبشر والأمكنة التي تضج بها المدينة وأحيائها وقضية المرأة في مواجهة المجتمع الذكوري التقليدي.

تجمع الرواية التي ترجمتها سوسنة سيد وصدرت عن دار العربي، مشاكل تركيا في السبعينيات من خلال شخصياتها التي تؤلف التركيبة المجتمعية لبيئة “أنقرة” حيث تجمعها معًا في مواجهة شجرة الحور، كاشفة عن علاقات الأسرة والأصدقاء والعشاق والمناسبات الاجتماعية ومتعرضة للعديد من القضايا مثل عدم المساواة، والشرف، والحب.

تدور الرواية حول شجرة الحور التي على وشك السقوط، رجال الإطفاء يهرعون هنا وهناك لاتخاذ التدابير الاحترازية، يتدفق الحشد إلى “يني شهير”، الشخصيات التي دخلت عدسة “سويسال” يلامسون بعضهم بعضا؛ يتعرفون بشكل جيد أحيانا وسيئ أحيانا، يتدافعون فيما بينهم. يتقابلون؛ البائع في متجر كيزيلاي “أحمد” بعد أن أخفق امام “شكران” في القبو في فترة استراحة الغداء، يصطدم أمام “المتجر الكبير” بـ “خديجة هانم” التي تلعنه لعدم احترامه لها، تخرج “خديجة هانم” من المتجر مستمدة القوة من ملاعق الشاي التي نشلتها، فيستاء منها “نجيب بيه”الذي يعيش على عائدات تأجير عقاره “لتجاهلها التحية شديدة اللباقة التي وجهها لها”.. بينما ترقب “موهبة هانم” من نافتها الحوار بين زوجها أستاذ القانون الجنائي “صالح بيه” ورجل الأعمال “جونجور” تفكر في ابنتها “أولجاي” وابنها “دوغان” اللذين يشعران بالسأم من الجفاء الذي يملأ بيتهما. أما “دوغان” فيقف مع “علي” الذي ساعده على رؤية عالم مختلف تماما منذ عرفه، يتفرجان معا على الحشد وعلى شجرة الحور الموشكة على السقوط.

في مقدمته للرواية والمعنونة بـ “زمن الحكي المُضارع” يقول الناقد مصطفى أرسلان تونالي “المُقدمات هي من أجل التجاوز، أم الروايات فلا. بإمكان رواية أن تُغيِّر حقًا العلاقة التي بينكم وبين مدينةٍ ما. ولا سيما إذا قرأتم “ذات ظهيرة في يني شهير” – سقوط شجرة الحور – قبل أن تروا أنقرة على الإطلاق، في فترةٍ كنتم فيها أكثر انفتاحًا لأن يُشكِّلكم ما تقرأونه – في مرحلة المُراهقة – حينها ستصبح أنقرة بالنسبة لكم مكانًا تألفونه وتعرفونه أكثر مُقارنةً بالمدن الأخرى.جميل، تذهبون إلى أنقرة وتبحثون عن حي “يني شهير”، فلا تستطيعون إيجاده، فقد ابتلعه حي “كيزيلاي” في العشر سنوات ونيف التي فصلت بين قراءتكم للرواية وذهابكم إلى هناك. فقد مطعم “بيكنك” جاذبيته القديمة، اختفى “12 مارس”، وحل مكانه “12 أيلول”، بدأت سنوات “علي” الطويلة في المُعتقل، ونذرت “أولچاي” نفسها للنسوية بعد طلاقها، تزوجت “ماهتاب” أخيرًا، أما “نجيب بيه” فخسر كل أمواله لصالح البنوك. سطع نجم “صالح بيه” في مهامه في “لجنة الدستور بمجلس الشعب” و”المجلس الأعلى للجامعات”، أما “دوغان” فانهمك في شرب الخمور والعمل في مجال الإعلانات.

ويضيف ما زالت الدكاكين الصغيرة تبيع شطيرة “جورالي”. حتى لو لم يتغير “يني شهير” كثيرًا حتى عام 1980، فإن أنقرة استمرت بوصفها مكانًا يحتاج إعادة استكشافه مُجددًا. إن رواية “ذات ظهيرة في يني شهير” هي مثل صورة فوتوغرافية قديمة التُقطت تحت شمس الظهيرة. هي حكاية عملاقة أكثر من كونها رواية. حكاية لا تُصوِّر لحظة واحدة؛ لحظة سقوط شجرة الحور، بل شريحة زمنية مدتها النصف ساعة السابقة لهذه اللحظة. لا عجب من الانتقادات التي تعرضت لها وقت نشرها بأنها “تفتقد وحدة الرواية”.تقول “سيڨجي سويسال” في الحديث الذي أجرته مع “أورهان دورو” في مجلة “مِلِّيَت صنعت” في شهر سبتمبر من عام 1973: “لكنني كتبتُ “ذات ظهيرة في يني شهير” مُجازِفةً بالتعرُّض لمثل هذا الانتقاد. لقد أردتُ النظر عبر عدسة آلة تصوير سينمائية إلى حشد العاصمة الذي يتدفق من ميدان “كيزيلاي” لمطعم “بيكنك” في وقت الظهيرة أثناء سقوط شجرة حور، وأن أضع الأشخاص الذين دخلوا نطاق هذه العدسة في مواقعهم داخل واقعة السقوط هذه”.

ويتابع تونالي “شجرة الحور على وشك السقوط. رجال الإطفاء يهرعون هنا وهناك لاتخاذ التدابير الاحترازية. يتدفق الحشد النابض بالحياة إلى “يني شهير”، أسفل مظلة زمنٍ مضارعٍ مُحلِّقة مُعلَّقة في الهواء. الشخصيات التي دخلت عدسة “سويسال” يلامسون بعضهم بعضًا؛ يتعرَّفون بشكلٍ جيد أحيانًا وسيئ أحيانًا، يتدافعون فيما بينهم. يتقابلون: البائع “أحمد” بعد أن مرَّ بإخفاق أمام “شكران” في القبو في فترة استراحة الغداء يصطدم أمام “المتجر الكبير” بـ”خديجة هانم” التي “تتقدم الصفوف لتدلف إلى المتجر فور افتتاحه”، يتجاوزها “أحمد” “وهو يفكر في ثديي “شكران””، بينما تلعنه “خديجة هانم”. تخرج “خديجة هانم” من المتجر مُستمدة القوة من ملاعق الشاي التي نشلتها، فيستاء منها “نجيب بيه”، الذي يعيش على عائدات تأجير عقاره، “لتجاهلها التحية شديدة اللباقة التي وجهها لها”. “عديمو اللباقة! كلهم بلا استثناء، رجالٌ ونساء، كلهم عديمو اللباقة!أما “ماهتاب” موظفة البنك التي نشأت في بيئة فقيرة، فترى “نجيب بيه”، وقد انفكت حاشية سرواله لأول مرة، بوصفه خائنًا “ممن يجعلون حكايتها الخيالية مستحيلة التحقق، بسحبه المستمر أمواله من البنك، وبنشره اليأس في قلبها، وبزعزعة آمالها في أن كل شيء سيتغير يومًا ما بفعل النقود المدَّخرة في البنك”. أما “جونجور” المُستمتع باستمرار نجاح مسيرته المهنية التي بدأها بتلوين بيض عيد الفصح وبيعه للأمريكيين، والذي يصف نفسه بعبارة “أنا شخصٌ مثالي”، فيغضب من الحوار الدائر بين “نجيب بيه” ونادل مطعم “بيكنك” واصفًا إياه باعتباره: “الأحمق! يأتي ليتناول غداءه ولا يكف عن الشكوى، ويفسد على نفسه وعلينا طعام الغداء. أعرفُ أمثاله، فهم يترددون على متجري أيضًا”.

تراقب “موهبة هانم” من النافذة الحوار بين زوجها “صالح بيه” و”جونجور”، تنزعج من تواني زوجها الذي لا يستطيع عبور الحاجز الذي فرضته قوات الشرطة والإطفاء التي انتشرت في الأرجاء بسبب شجرة الحور. ترى “موهبة هانم” “جونجور”، الذي لا يلتزم بالقواعد وينطلق بسيارته، بوصفه شخصًا ليس بإمكانه الوقوف على أرض صلبة رغم كل ثرائه. أما نظام المنزل الذي تُشرف عليه “موهبة هانم” بعناية، فيسير بدقة كالساعة، مُضايقًا “أولچاي” و”دوغان” بالجفاء الذي يلفُّه. تستشيط “موهبة هانم” غضبًا بسبب خروج “أولچاي” مُسرعةً قبل أن تتناول طعام الغداء، فتقرر التنفيس عن غضبها في “مولود” حارس العقار.

أما “دوغان” فيقف مع “علي”، الذي ساعده على رؤية عالمٍ مُختلفٍ تمامًا مذُ عرفه، يتفرجان معًا على الحشد وعلى شجرة الحور المُوشكة على السقوط. كانت العلاقة العاطفية التي جمعت شقيقته “أولچاي” بـ”علي” الذي أُطلق سراحه ذلك اليوم من الحبس، قد عصفت بكيان “دوغان” الهوائي المُتردد غير المستقر. والآن ها هما لا يعرفان كيف سيتجاوزان الهُوَّة التي نشأت بينهما، فالفروق بينهما غدت أكثر وضوحًا أمام أعينهما. يتعجب “دوغان” من العلاقة التي تجمع بين “علي” و”نچمي” الغجري ماسح الأحذية، وكذلك من حوارهما الحماسي. يعتبر “دوغان” أن قدرة “علي” على التفاهم والتوافق مع عدد كبير من الأشخاص المُختلفين تمام الاختلاف عن بعضهم بعضًا هو نوع من انعدام الشخصية. يُلمِّع “نچمي” حذاء “دوغان”. أما “آيسل”، “ابنة الزنا بين أبيها وشقيقتها الكبرى”، فتسير “في خيلاء بشعور من الثقة بالنفس سببه بطاقة الهُوية التي حصلت عليها توًّا”، وترغب في التفاخر أمام “علي” الذي تعرفت عليه في الحجز، وتأمل أن يأتي ذات يوم لملاقاتها في الملهى الليلي الذي تعمل به. لكن ما أن ترى “علي” يترك “دوغان” ويلتقي مع “أولچاي” حتى تطلق العنان للسباب واللعنات. يصيح مجنون شارع “سقاريا” ويهتف دون أن يعبأ به أحد. وفي النهاية: تسقط شجرة الحور أمام أعين الحشد، فوق حارس العقار “مولود” جراء ارتباكه وعدم معرفته كيف يتعامل مع إرهاب “موهبة هانم”.

ويرى توناليإن الأمر الأكثر جذبًا للانتباه في “مشاهد أهل بلدي” التي يربطها الزمان والمكان نفسهما هذه، هو استمرارية غياب التفاهم والتعاطف. بيد أن ما نقرأه ليس قصة حول عدم التفهُّم. على العكس تمامًا: هذه الأنماط التي لا تفهم بعضها بعضًا، وتستاء وتمتعض من بعضها بعضًا، وتُزعج بعضها بعضًا، نفهمهم نحن ونراهم مُحقين كلما جلس الراوي على أكتاف واحدٍ منهم. نستطيع أن نتفهم لِمَ ليس بيد “نجيب بيه” سوى أن يشعر كما يشعر، ولِمَ ليس بوسع “آيسل” أن تتصرف بأي شكلٍ آخر. كلما وُجِّهت العدسة ناحية واحدٍ منهم، نصبح في صفه: حتى أن رد فعلنا الدفاعي كقراء يتطور ويزداد – مُجبرين – كلما شرع الراوي، الذي لا يستطيع أن يكون مُحايدًا على الإطلاق، في دفع أحد الشخصيات وإغضابها بما يسرده. ينشأ التوتر في الاتصال ما بين الشخصيات التي تُصادف بعضها بعضًا في “يني شهير”، نتيجةً لانكسار الأشعة التي تأتي من زوايا مُختلفة، فالمقصود هنا هو خلق طيف كالذي يتكون في قوس قزح.في رأيي، إن الشيء الذي يكسر هذا الطيف، ويفتح مظلة زمن المضارع، هو ظهور الشخصيات الثلاثة الإيجابية؛ “علي” و”أولچاي” و”دوغان”، وأكثرهم “علي”. (إنها لقضية أخرى أن بريق “علي” ومنزله بمصطبته الحجرية التي تُغسل باستمرار، أكثر سطوعًا بدرجة تجعله يُغطي على الضوء المُنبعث من بقية الشخصيات. بيد أن الحوار الذي يدور بينه وبين “آيسل” التي تعرَّف عليها في الحجز يُغيِّر هذا الوضع بعض الشيء. فـ”علي” يلاحظ، كما نلاحظ، أن ما قاله لـ”آيسل” تحوَّل إلى مُجرد خُطبة عصماء بلا فائدة). بينما تتلامس بقية الشخصيات من بعيد، تحيك العلاقة المتينة لثلاثتهم؛ “علي” و”أولچاي” و”دوغان”، واقتراب عدسة الراوي منهم مرارًا، البنية الروائية لـ”ذات ظهيرة في يني شهير”، وتفتح الطريق لتحديد مركز خارجي للحكاية التي تتكون من حكايات متعددة.

ويؤكد إن “سيڨجي سويسال” حطَّمت بنفسها الإطار الذي بنته في المقام الأول، ومزَّقت اللحظة الكُلية التي خلقتها. ففي زمننا الحالي الموضة هي النصوص الأكثر ميلًا للبناء الهندسي المعماري المُخلصة لإطارها. والأكثر جفافًا. إن ما يمنح “ذات ظهيرة في يني شهير” حيويتها هو: عدم قدرة العدسة على أن تكون موضوعية. حين نُشرت الرواية لأول مرة، دار كثيرٌ من الجدل حول إلام ترمز شجرة الحور، ولِمَ سقطت تحديدًا على من سقطت فوقه.

إن شجرة الحور هي رمزٌ شديد الوضوح على حد تعبير “سويسال” في الحوار الذي سبق ذكره: “إن شجرة الحور لا تستطيع بسقوطها أن تقضي على الفساد الذي تسبب في جفافها، بل هي بالأحرى مُجرد امتداد للفساد الذي سبق واحتضر بالفعل”، إنها رمزٌ أجوف للغاية بمنظور اليوم. لكن هذا الكتاب الذي يبدو وكأنه يستند على هذا الرمز، لا يفقد أيًا من قيمته إن نظرنا إلى شجرة الحور المُنهارة بوصفها مُجرد شجرة حور ليس أكثر. إن الشخصيات شديدة الحيوية التي نتعرف عليها ممن يشاهدون سقوط شجرة الحور، يتفوقون على الرمز، ويجعلونه بلا أهمية. ليس فقط الشخصيات؛ بل أيضًا أجولة البطاطس المزعجة في “حمام أونو”، والأمهات الصارمات حافظات النظام، والفقر، وجشع الربح، ورائحة المقليات الشهية، والحدة المؤلمة للفروق الطبقية.

 

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى