أنقرة تحت ضغط الزمن الدمشقي
ذهبت توقّعات أكثر صنّاع القرار السياسي في المنطقة، إلى غير ما بنت عليه من معطيات، إثر وصول الرئيس بشار الأسد إلى موسكو، بعد وضوح التصريحات السورية، على لسان رئيسها، بأن احتمالية لقاء الرئيسين السوري والتركي قد أصبحت بعيدة، فهل هي فعلاً، كذلك؟
لم تكن الزيارة إلى موسكو، منفصلة عن جملة التحوّلات السياسية العميقة، التي تتابعت في غرب آسيا بشكل أساسي، فطبيعة الاستقبال الرسمي الذي تمت به، ضمن البروتوكول الروسي الكامل، قد سبقتها ببضعة أيام، مفاجأة الاتفاق الإيراني السعودي، من البوابة الصينية، التي عبَّرت عن انزياح متصاعد على مستوى سياسات دول غرب آسيا، باتفاق أكبر قوتين إقليميتين على جانبي الخليج.
لم يكن لهذا الاتفاق أن يحصل بدلالاته المهمة، أن يتم ويحصل بهذه السرعة، لولا إدراك أغلبية الدول، التي كانت تستند باستمرارها وبقائها، على قدرة الولايات المتحدة بتأمين حماية وجودها الداخلي، إضافة إلى التهديدات الإقليمية والدولية، وهذا ما حصل بعد الاتفاق الذي تم على متن الطراد أس أس كوينسي عام 1945، بين الملك عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، والذي بموجبه تضمن الولايات المتحدة الأمن للمملكة، مقابل ضمان المملكة لإمدادات الطاقة التي تستحقها الولايات المتحدة، رغم الاختلاف على موضوع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، والموقف منها.
أدرك ولي العهد محمد بن سلمان، بعد فشل حربه على اليمن، وعدم دعمه من قبل واشنطن في حربه كما ينبغي، وهو الذي عاصر الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، وعجز “إسرائيل” عن هزيمة حزب الله عام 2006، وحماس بعدها 2008، ثم فشل الرهان على إسقاط سوريا نهائياً، رغم الدمار الذي أصابها، في حرب هي الأطول والأعنف في تاريخ المنطقة المعاصر، منذ اندلاعها عام 2011، إضافة إلى فشل استمرار الرهان على الولايات المتحدة بحماية المملكة، وخاصةً بعد أن قصف أنصار الله في اليمن مراكز أرامكو 2019.
كانت الحرب في أوكرانيا هي نقطة التحوّل الكبرى، التي دفعت إلى اصطفافات بارزة للقوى الآسيوية الناهضة، وخاصةً الصين وروسيا وإيران، إضافة إلى امتناع أكثر من 80 % من دول العالم عن تأييد ودعم الولايات المتحدة في الحرب الأوكرانية، التي تخوضها بالأوكرانيين، وقد كانت فرصة مهمة لولي العهد محمد بن سلمان لبدء الانزياح نحو الصين وروسيا، والعمل على إقامة نوع من التوازن بين القوة العسكرية الأميركية المستوطنة في الخليج، والقدرات العلمية والاقتصادية الصينية المنفتحة بشكل كامل على المملكة، بشكل مناقض للإغلاق الأميركي الإسرائيلي في وجه طموحاتها العسكرية والنووية.
في هذه الأجواء كان الاتفاق السعودي الإيراني في الصين، والذي ترافق من صعود اليمين “الإسرائيلي” إلى السلطة في تل أبيب، بما أحرج المملكة، إضافة إلى الإمارات العربية المتحدة، مما أدى إلى تراجع الرهان على الدور “الإسرائيلي” كبديل عن الولايات المتحدة لموازنة الدور الإيراني المتصاعد في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، عدا عن أفغانستان وباكستان.
هذا الاتفاق الذي يعتبر بمثابة زلزال سياسي، سبقه زلزال طبيعي في تركيا وسوريا، الذي رغم كارثيته، انعكس إيجاباً على سوريا، بانفتاح أغلب الدول العربية عليها من البوابة الإنسانية، التي لا تنفصل عن القرار السياسي، فاختصر المسافات الزمنية لبدء عودة العرب إلى دمشق.
وعلى العكس من ذلك فإن الزلزالين السياسي والجيولوجي، شكَّلا المزيد من الضغوط على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي يخوض معركة سياسية خطيرة على وجوده السياسي، وبفاصل زمني قصير لا يتجاوز الشهرين، وهو يحتاج إلى صورة للقاء مع الرئيس بشار الأسد، لتجييرها في الانتخابات الرئاسية التركية، حيث أصبحت الكارثة السورية عبئاً على الداخل التركي، بالتراجع الاقتصادي الكبير، وتحميل سياسات الرئيس إردوغان في سوريا، المسؤولية الكاملة عن تداعيات تدخّله، إن كان بمسألة اللاجئين، أم بنفقات دعم المجموعات الإسلامية المسلحة السورية، من أموال الخزينة التركية.
على الرغم من حرص كل من روسيا وإيران على نجاح الرئيس إردوغان في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وهما الدولتان الأقرب لسوريا، في حربها المديدة، فإن لدمشق حساباتها الخاصة، فالرئيس الأسد ما بعد الزلزالين مختلف بوضعه الجيوسياسي عما قبله، فهو على العكس من الرئيس إردوغان، تحوّل إلى مصدر قوة في محادثاته في موسكو، مع حليفه الرئيس بوتين، وهو الأكثر حرصاً على بقاء صديقه الرئيس التركي.
وصل الرئيس الأسد إلى موسكو، وهو متسلّح بنقاط قوة واضحة، فهو قد بدأ باستعادة الدور الإقليمي، بعد أن أصبحت الكارثة السورية الممتدة زمنياً أكثر مما ينبغي، عبئاً على المحيط الإقليمي بأكمله، وأن لا حل في سوريا من دونه، وهو متسلّح بدعم محور طهران، التي لا تضغط على حلفائها بخياراتهم السياسية الداخلية والخارجية، ومتسلّح أيضاً بانفتاح عربي واضح، ضمن علاقات ثنائية وازنة، تشكّل مركز ثقل القرار الاقتصادي العربي، وهما الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، اللتان ستساهمان خلال الأشهر المقبلة في الانفراجات الاقتصادية الكبيرة في سوريا، إضافة إلى العلاقات السياسة على أعلى مستوى، وكذلك مصر التي حسمت أمرها بشكل كامل.
وهو إضافة إلى البعد العربي الوازن لأكبر القوى السياسية والاقتصادية، فإنه لا يعيش القلق من نتائج الانتخابات التركية، على الرغم من عدم تواصله مع أي من رموز المعارضة التركية، فإن فوز مرشح المعارضة التركية كمال كليجدار أوغلو يعتبر بمثابة فرصة كبيرة بالنسبة لسوريا، وهو الحريص على إعادة تركيا إلى النظام العَلماني، والخلاص من المجموعات الإسلامية المسلحة، إضافة إلى رؤيته للحل الواضح في سوريا، بعد أن أعلن عن توجّهه إلى دمشق، في أول خطوة له في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية، واللقاء بالرئيس الأسد، وإعادة اللاجئين السوريين إلى بلدهم، عدا عن دعوته إلى إقامة نظام إقليمي مبني على تعاون كل من تركيا وإيران والعراق وسوريا.
على النقيض من الرئيس إردوغان، المحكوم بزمن قصير من الحركة مداه شهران فقط، وهو بأمس الحاجة لإقناع الناخبين الأتراك بجدية توجّهاته الجديدة في سوريا، فإن الرئيس الأسد خرج من الزمن الضاغط إلى مداه المفتوح، مع وعود اقتصادية كبيرة، من قبل روسيا والسعودية والإمارات، إضافة إلى الصين المقبلة أيضاً، وضع حلفاءه الروس والإيرانيين أمام واقع الزمن الضاغط، للدفع بخصمه الرئيس إردوغان نحو اتخاذ موقف واضح وصريح للانسحاب من الأراضي السورية التي احتلها، والتخلّص من المجموعات المسلحة، والعودة إلى ما قبل الحرب في سوريا.
يدرك الرئيس الأسد بأن الانسحاب خلال شهرين مستحيل من الناحية العملية، وخاصةً مع وجود مجموعات عسكرية مسلحة تكفيرية، غالبيتها من السوريين، عدا عن عقدة المجموعات الأجنبية، التي تحتاج إلى مناخ دولي جديد للتخلص منها، واللقاء غير مستبعد، ولكن بشروط أساسية واضحة ومكتوبة بوضع جدول زمني قصير للانسحاب، متضمناً الخلاص من كل المجموعات المسلحة، وإعادة الحصص القانونية من مياه نهري الفرات ودجلة، واللقاء في هذه الحالة ممكن، وبضمانة روسيا وإيران، لعدم الانقلاب على تعهداته، في حال نجاحه بالانتخابات، وهو الذي لم يفِ باتفاق 5 آذار/مارس 2020، القاضي بتسليم طريق “M 4” للسلطات السورية.
إنه جنرال الزمن الذي لطالما لعب عليه السوريون، ونجحوا به في سياساتهم الخارجية، أما الداخل فله حديث آخر.
الميادين نت