أنقرة لتجديد الصراع العثماني ـ الصفوي!

يرتفع الخطاب المذهبي لـ «حزب العدالة والتنمية» في هذه الأيام كما لم يرتفع من قبل.
هو الخطاب الذي ساد منذ بدء الأزمة السورية، وجعل رئيس «العدالة والتنمية» حينها رجب طيب أردوغان يشير علناً إلى الانتماء المذهبي العلوي لزعيم «حزب الشعب الجمهوري» كمال كيليتشدار أوغلو، وجعله ينتقد الشيعة علناً من على شاشة التلفزيون، واصفاً إياهم بأنهم منافقون وكاذبون، وهو الذي لم ير في ضحايا تفجير ريحانلي الشهير على الحدود مع سوريا سوى أنهم من السنّة (علماً أن بينهم انتماءات أخرى).
وقبل أيام تحدث أردوغان إلى محطة تلفزيونية عربية، متسائلاً عن مصير بعض المجموعات في العراق، التي قال إن القوة التركية في العراق تهدف إلى ضمان أمنها. وقال بالحرف: «هنا يوجد عرب سنّة، ويوجد تركمان سنّة، ويوجد أكراد سنّة. فمن الذي سيحفظ أمن هؤلاء؟. هم بحاجة لحماية أنفسهم عبر برنامج التدريب الحالي. وكل الخطوات التي نقوم بها هي في هذا الاتجاه».
الخطاب المذهبي لـ«العدالة والتنمية» وعلى لسان أعلى مسؤوليه في الحزب وفي الدولة لا ينزل عن لسانهم. وفي ذروة البحث عن حلول لأزمات المنطقة لا يوحي الحزب أنه في وارد إسقاط الخطاب المذهبي من قاموسه الذي يغذي نفوذه في الداخل، ويريد أن يمتطيه في أزمات المنطقة، برغم انه يرى جيداً كيف أن هذا الخطاب انهار.
في نظرة سريعة إلى وسائل إعلام «حزب العدالة والتنمية» والمؤيدة له يمكن أن تقف على خطورة ما يشيعه هؤلاء، وبتغطية من المسؤولين، من نعرات مذهبية خطيرة لم تظهر إلا في العهود المتوترة، من صراعات الدولة العثمانية مع الشرق وفي عهود مثل عهد السلطان سليم الأول.
عاد السلطان سليم الأول، المعروف في تركيا بـ«ياووز» (أي القاسي) إلى حاضرة التاريخ من باب إطلاق اسمه على الجسر الثالث على البوسفور الذي شارف على الانتهاء. وها هو اليوم يعود كرمز للحساسيات التاريخية مع إيران تحديداً حيث إنه بطل معركة تشالديران في العام 1514 التي هزمت الدولة الصفوية قبل أن يستكمل العثمانيون بعد ذلك بسنتين مسيرتهم لاحتلال بلاد الشام ومصر.
يكتب إبراهيم قره غول، رئيس تحرير «يني شفق» الصحيفة الأكثر تعبيراً عن «حزب العدالة والتنمية»، أن إيران وروسيا تحاربان تركيا في سوريا. يقول: «إنها حرب مفتوحة ولكن غير معلنة. وهما يحاربان تركيا عبر حزب العمال الكردستاني في تركيا ووحدات الحماية الكردية في سوريا. لقد نقل هؤلاء الحرب السورية إلى تركيا. إنهم يحاربون تركيا على أراضيها بشكل مكشوف. وسنرى كيف سينتقل إلى الحركة عملاء هؤلاء داخل تركيا، لذا فإن عمليات الجيش التركي في جنوب شرق تركيا ليست فقط ضد حزب العمال الكردستاني بل ضد هذه الدول أيضاً. عمليات لإنهاء الاحتلال وتنظيف البيت وكسر التدخل الخارجي. فحزب العمال الكردستاني لم تعد مهمته محصورة بالإرهاب بل بات حزباً يمثل حصان طروادة في مشاريع احتلال تركيا».
ويضيف قره غول إن زعيم «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي صلاح الدين ديميرطاش (الذي زار موسكو قبل يومين) لم يذهب إلى هناك إلا لكي يأخذ التعليمات في إطار الدور الكردي في مخططات احتلال تركيا. ويقول الكاتب إن تركيا لن تركع وترضخ للتهديدات ويخصص إيران بكلمته الأخيرة: «الكلمة الأخيرة لإيران: إنها تصفية الحساب الإيرانية مع تركيا التي لا تخاف منها ولا تريدها. ويمكن إذا كنتم (الإيرانيون) تتطلعون اليوم إلى الشاه إسماعيل، فهذا يعني أنكم تدفعون تركيا لتكون ياووز».
نبش الصراع العثماني، أو السني ـ الشيعي، ليس جديداً، فقد ظهر هذا بعد الاحتلال الأميركي للعراق. ومع أن العلاقات التركية ـ الإيرانية كانت جيدة حينها (أي بين العامين 2003 و2010) فإن تظهير النزعة العثمانية – الصفوية كانت قائمة بصورة تلفت النظر.تح ميل إيران (ومعها روسيا والأكراد) مسؤولية السعي لضرب تركيا منتشرة في الصحف الموالية لـ «حزب العدالة والتنمية»، لكن أيضاً تستخدم كذريعة لتبرير التقارب مع إسرائيل.
تقول اوزليم البيرق، في «يني شفق»، إن الكثير «يمكن أن يحكى عن العلاقة التركية مع إسرائيل، ولماذا يتم تطبيعها الآن. لكن توجد حقيقة واحدة وهي إيران التي تسعى للهيمنة على الشرق الأوسط، سواء من خلال نزعتها المذهبية التي تزرع بذور حروب كبيرة في المنطقة أو من خلال دعمها لـ (الرئيس السوري بشار) الأسد الذي يقتل ويهجر الشعب السوري، أو من خلال دعمها لحزب العمال الكردستاني وحزب الاتحاد الديموقراطي في سوريا». واعتبرت أنه «في ظل استمرار إيران قوية فإن النظام السوري لن يتغير، ولن يتوقف الموت هناك، ولن يتراجع تهديد الإرهاب». ودعت إلى عدم نسيان أن إيران، بحروبها المذهبية، تشكل مصدر خطر على تركيا. ولكن الكاتبة تحمل هذا التوصيف إلى مكان آخر، وهو تطبيع العلاقات مع إسرائيل، حيث تقول إن تركيا في مواجهة الخطر الإيراني وجدت نفسها بحاجة إلى تعطيل هذا الخطر من خلال تطبيع العلاقات مع إسرائيل، ومن خلال أردوغان نفسه الذي بنى حضوره على العداء لإسرائيل.
لقد بات من سخرية القدر والسياسات الخاطئة أن الزعيم الإسلامي، الذي تقدم مرة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بطلب الانضمام إلى منظمة «شنغهاي للتعاون» بديلاً عن الاتحاد الأوروبي هو نفسه يسمي اليوم روسيا عدواً وقوة امبريالية بعدما استهدفها بإسقاط طائرتها في 24 تشرين الثاني الماضي، ليعود بعد ذلك إلى التقرّب من الاتحاد الأوروبي الذي قال سابقاً عنه إن الانضمام إليه ليس من اهتماماته وهمّه.
ومن سخرية القدر والسياسات الخاطئة أن ما اعتبره أردوغان خطّاً أحمر لا يناقش في إرسال قوة عسكرية إلى بعشيقة تحول بعد أيام فقط من الدخول إلى انسحاب بناءً لطلب (حتى لا نقول لأمر) من الرئيس الأميركي باراك أوباما. فإذا كانت المصالح التركية والأمن القومي التركي يقتضيان دخول العراق فأين أصبحت هذه المصالح بعد المكالمة مع أوباما؟.
ومن سخرية القدر والسياسات الخاطئة أن الزعيم الذي رفع راية الدفاع عن تركمان سوريا هو الذي تركهم في سنجار وتلعفر فريسة «داعش»، ولم يحرك ساكناً للدفاع عنهم. وعندما كان يرفع الصوت فإنما عن التركمان السنّة وليس كل التركمان. وهو هنا في الحقيقة لا يدافع عن احد، لا التركمان السنة ولا الشيعة، إنما يتخبط في سياسات خاطئة بتوسل مجموعات خارج تركيا للعثور على دور فقدته أنقرة وجعلها خارج اللعبة.
وليس أبلغ من كلام النائب عن «حزب الشعب الجمهوري» أوزتورك يلماز، وهو الذي كان قنصل تركيا في الموصل واحتجزه «داعش» مع 49 من موظفي القنصلية، والذي تحول إلى معارضة سياسات أردوغان، أمام الهيئة العامة للبرلمان التركي الثلاثاء الماضي، عندما أشار إلى ازدواجية السلوك التركي، بقوله «لقد دعونا العشائر السنية العراقية إلى تركيا. أكلوا وشربوا وتحدثوا ووضعوا الخطط، وبعد احتلال الموصل في 11 حزيران العام 2014 بايعوا أبو بكر البغدادي. هل يعقل هذا؟».
والأخطر أن يلماز اتهم الحكومة التركية بأنها تعمل على تقسيم العراق. وقال «نحن لم نرد أن نتعاون مع بغداد بشأن الدخول إلى بعشيقة. ذهبنا على أساس طلب من محافظ الموصل السابق ومن الأكراد. بعد ذلك تبين انه ليس من إثبات على ذلك. أليس هناك من خطأ من جانبنا؟ من ناحية نقول إننا ندعم وحدة التراب العراقي ومن ناحية ثانية نقوم بكل شيء ينتهك سيادة العراق واستقلاله».
ومن سخرية القدر والسياسات الخاطئة أنه حتى من أقرب المقربين إلى أردوغان ورئيس الحكومة احمد داود أوغلو بات يوجه النقد المكشوف لهما. فالكاتب عبدالقادر سيلفي، الذي يعتبر الناطق غير الرسمي لـ»حزب العدالة والتنمية»، كتب متسائلا عن المستفيد من إسقاط الطائرة الروسية.
وقال سيلفي إن «تركيا تتخبط في الكثير من خطواتها الخارجية. ففي العراق مثلا لم تعد تركيا جزءاً من التحالف المؤيد لحكومة بغداد لمواجهة داعش، والذي تشكل بعد سيطرة داعش على مساحات واسعة من العراق قبل سنة ونصف السنة. تحالف فيه دول بعيدة جداً، مثل نيوزيلندا وكندا، وتركيا ليست فيه». ويضيف «إنها اللعبة الأميركية المزدوجة التي تساهم في محاصرة تركيا».
لكن الانتقاد الواضح لسيلفي هو لحادثة إسقاط تركيا القاذفة الروسية «سوخوي 24». ورأى أنها «لعبة أميركية – روسية مشتركة. لعبة تستخدم حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي ولعبة تدع تركيا خارج طاولة الحل في سوريا. لعبة اسمها لي ذراع تركيا. لي الذراع من أجل هندسة الوضع في العراق وسوريا لغير مصلحة تركيا. لعبة بدأ الضغط على زر بدئها بعد إسقاط الطائرة الروسية. أسقطت الطائرة وبدأ مناخ المنطقة بالتغير». ويقول إن هذه الحادثة بدأت تثير الشكوك لديه. ويستشهد بما كان يمكن أن يسأله دائما المحلل الاستخباري الراحل ماهر قايناق: «من المستفيد؟». ويقول سيلفي إن «لي الحق في السؤال عمن المستفيد وهذا حقي. أما الجواب، فهو أن إسقاط الطائرة لم يكن قطعاً لفائدتنا».
طبعاً بسبب السياسات الخاطئة وغير المحسوبة التي تهدد هي لا غيرها، الاستقرار في الداخل التركي والمصالح التركية في المنطقة والعالم، والتي لم تبقِ لتركيا صديقاً أو حليفاً سوى إسرائيل، فيما باتت إيران عدواً.
صحيفة السفير اللبنانية