أوجين غيوفيك شاعر الصمت والأشياء

 

يقدم الشاعر والمترجم اللبناني اسكندر حبش لمختارات الشاعر الفرنسي أوجين غيوفيك بقراءة ممتعة وكاشفة لتجليات التجربة الشعرية وخصوصية نسيجها رؤية وكلمة لدى الشاعر، الشاعر الذي يعد من أحد أهم شعراء فرنسا في النصف الثاني من القرن العشرين، نشر أولى قصائده في سنة 1939، وكان ديوانه “أرض ـ ماء” عام 1942 أحد ديونين مختلفين عن التيار السيريالي السائد في المشهد الشعري الفرنسي آنذاك، وقد استمر نصه مغايرا ومتفردا خلال عمره وعبر أكثر من عشرين ديواناً شعرياً.

المختارات التي ترجمها وقدم لها حبش جاءت بعنوان “حين أكون وحدي” وصدرت عن دار ظلال وخطوط الأردنية، يقول في مقدمته التي عنونها “غيوفيك، شاعر الصمت والأشياء”: بداية، هناك “الأشياء”، حيواتها الصامتة البعيدة عنا “يا صحون الخزف المستعملة/ الفاقدة بياضها/ جئت جديدة/ إلى بيتنا”. ومن ثم نجد “الكلمات” كي نحاول تجاوز “الحائط” الذي يبعدنا عن المعرفة: “الكلمات/ من أجل أن نعرف/ حين تنظر إلى الشجرة وتقول كلمة: نسيج/ تعتقد أنك عرفت ولمست حتى/ ما يصنع منها“.

هذا هو الأمر، فداخل هذا التحقق البسيط، الأشياء أولا والكلمات بعد ذلك، تأخذ مغامرة غيوفيك الشعرية مجراها، تلك المغامرة الفريدة والمتأصلة في إرادتها المتوحشة، بأن لا تبقى وحدها، كي تموه عن نفسها في تزيينات الشعر والشاعر المعتادة، وهي بذلك، فتحت طريقا جديدا في شعر القرن العشرين.

في القرن التاسع عشر، خطّ بودلير، في نهاية قصيدته “السفر”، منهج حركة الفن الحديث، وهو يتمثل في الذهاب إلى “أغوار المجهول لنجد الجديد”. فمن رامبو إلى مالارميه، ومن لافورغ إلى سندرارس وصولا إلى أبولينير، ومن سيغيلين إلى بروتون، أخذ هذا المنهج شكله في سبر أغوار الصدفة والهلوسة والحلم واللاوعي”.

ويضيف “لكن في العام 1942، وفي فترة متقاربة جدا، صدر ديوانان شعريان يختلفان عن التيار السوريالي الذي كان مسيطرا ومهيمنا على الحركة الفنية في فرنسا على وجه التحديد؛ هذان الديوانان هما “الانحياز إلى الأشياء” لـ “فرانسيس بونج” و”أرض ـ ماء” لـ “أوجين غيوفيك”. ما كان مختلفا عند هذين الشاعرين، لم يكن يكمن في بحثهما عن مكان ما وراء الواقع والحقيقي، عن التملص والانفلات من ابتذالية الأشياء البسيطة كالزجاج والصابون والمسمار. وإنما كان بحثهما عن الواقع عينه، وتحديدا ـ وهنا وجه الغرابة إذا شئنا ـ البحث عن هذا الفضاء المعتم الذي يصل الكلمات بالأشياء، والناس بأناس غيرهم والوعي بالعالم.

كان فرانسيس بونج، كرجل ثقافة، مدهوشا بتأثر الأشياء في اللغة، إذ نظم فيما بينها شبكة من الرنين أو مسافة من “لعبة الغميضة”، كأنه يشبه بذلك قليلا الرسام ماغريت حين كان يلهو بكتابة كلمة أكاسيا تحت صورة “البيضة” التي يرسمها.

ومن جهته كان غيوفيك ربما أكثر بدائية، (ولنأخذ الكلمة هنا بمعناها اللفظي والحرفي أي مكتشف الأشياء الأولى)، وهو لم يستطع الدخول في هذه اللعبة، إذ، من وجهة نظر ذلك الطفل الفقير الذي كانه، كان لا يصل إليه أي شيء “إلا من خلال التوسع في غزواته”، لذلك دخل في محاولة امتلاك العالم، لكن ليس ليسوده ويتسلط عليه، أو لكي يغرق في وهم القوة، وإنما ليجعل منه مكانه، بطيبة قلب، لكي يخط فيه “مجاله” أو كي يكون “ضمنه”.

ويوضح حبش لم يكن شعر تلك الفترة يتكلم عن الأشياء. والشعراء الذين يأتون على ذكرها، كانوا يفعلون ذلك من خلال الصور والاستعارات. فجأة جاء غيوفيك، وبدأ يتحدث عنها، من أجلها هي نفسها فقط، قالها، بما هي عليه، ببساطة، ومن دون أية استعارات. فهو حين تحدث عن الأشياء، تحدث لأنها موجودة، تحدث لأنها مستقلة بذاتها خارج النطاق البشري إذ لم يتحدث ضد البشر وقد طرح ذلك كله العديد من الأسئلة على الوعي، لذلك وجب على الإنسان أن يأخذها في حسبانه: “سيكون مفعما/ ذاك الذي لن يكون/ الفضاء له خارجا/ اسمع في داخلك الشحرور/ كيف يسكنك/ انظر إلى نفسك من خلاله/ مدّد نفسك فوق السهل”. مسار صعب، كان ذلك المسار الذي اقترحه غيوفيك علينا، مسار يتآلف ويختلط بشيء يشبه الذعر: الذعر من سجادة مخفية خلف باب الخزانة المغلق، حائط المنزل المقابل، ملمس الغرانيت الخشن، حركة ذلك المجهول الذي يسير صوبنا لملاقاتنا، الطريق التي تتتابع، المثقوبة بالانهيارات الفجائية والمتجددة على الشواطئ الشديدة النعومة والكثيرة اللطف: “افترضي/ أن الفضاء بأسره/ وبأنني أطلب منك/ أن تستهلكيه بنظراتك/ كي يحل على الأقل/ السهل مكان ابتسامتنا”.

ويرى حبش أن شعر غيوفيك يتحدد بعدد من عمليات الرفض: رفضه استعمال الكلمات النادرة، الفظة، من أجل أن يغرف من لغة بسيطة لأقصى الدرجات، من لغة واضحة لأقصى درجات الوضوح، ومن لغة محددة لأقصى ما يمكنها أن تكون. هذا الرفض في الامتناع عن المحسنات، جعله يمتنع أيضا عن أن ينحو نحو الخطاب، لقد تجنب غيوفيك دائما، كل ما يمكنه أن يبدو خطابيا، لدرجة أنه حذف من شعره وبشكل كامل تقريبا، ليس فقط النعوت والصفات، وإنما أيضا، عددا كبيرا من الكلمات وحتى عبارات وأحرف الوصل، لدرجة أنه يمكننا إن نطرح تساؤلا عما إذا كان ثمة تناقض في هذا الشعر. فهذا الشعر الذي كان يتبع زمنه والذي كان يرغب في قول واقعه، بأكثر قدر ممكن، وفي قول جوهر الواقع، كان بدوره يتحدد بجملة من المعايير الشكلانية بشكل دقيق، وبمفهوم للقصيدة، القصيدة الشيء، التي هي أحد مجالات الفن للفن”.

ويشير إلى أنه صحيح أن مسار غيوفيك هو دائما جزء من الشيء الذي يجب أن يقال، جزء من العالم الخارجي ومن الواقع، لكنه يبقى بالنسبة إلى الشاعر، المسار الذي لا يصل أبدا إلى التعبير الوحيد للشيء الذي يجب أن يقال، وإنما إلى شكل معطى، إلى شكل غير محدد. وهنا، ثمة رهان مضاعف، ثمة حدود مزدوجة، إذ أن الشاعر يخفي ما لا يستطيع أن ينحني لشكلها، فهذا الشكل يمنعه من التعبير بحرية عما يرغب في قوله: “ينبغي أن أقول لك/ رغم أن ذلك سيكلفني/ لتعلمي؛/ بأني أتكلم/ حين أكون وحدي”.

إن كان الخطاب غائبا، فإن القصائد، عند غيوفيك التي تظهر بمثابة لحظات وأمكنة تساؤل ملح تتمسك بأن تظهر نفسها. قصائد، فعلى الورقة، نجد الشيء القصيدة، الشيء الجميل، حيث إن قيمتها وملكيتها الكبيرة تكمن في أن تحافظ على إثر ذلك التحول الكبير من خلال تيه العمل، ومن خلال اجتراره الداخلي، وهو أيضا، يحفظ آثار القوة التي تفيض منها، آثار العمل الذي يقترحه غيوفيك حين يقول إنه يتكلم وحده. وبذلك، تعترف القصيدة بنفسها، على أنها وصول لتطواف، وان كان تطوافا دائريا.

ويرى حبش أن هذا التطواف يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل بهذا المعنى يبدو شعر غيوفيك وكأنه يبدأ دائما من البداية؟ أبدا. إنه لا يعود إلى البداية، لكن هذه المحاولة ما هي إلا العودة إلى المصدر الشعري. فالشعر هو بمثابة الدائرة، والاستمرارية كبيرة داخل العملية الشعرية، من كتاب “أرض ـ ماء” أو “تنفيذي” ولغاية دواوينه الأخيرة. فالعبارة والشكل الشعريان يبدوان وكأنهما موجودان دفعة واحدة، لم يتبدلا، وإن كان ينحو إلى كتابة الزمن، أكثر من كتابة الفضاء في هذه الدواوين. فلفترة طويلة، أدرج غيوفيك قصيدته في الفضاء، يقبض عليه، يصارعه، في مزيج من المسافة ومن القرابة اللتين تسمان شعره وطريقته في الاقتراب من العالم والأشياء. وعناوين مجموعاته تشهد على هوسه الفضائي هذا: “المجالي”، و”مدينة”، “فضاء”.. إلخ.. كان على إنسان غيوفيك أن يحدد، في الوقت ذاته، فضاءه الخاص وان يحدد ذاته بالنسبة إلى فضائه. وهذا ما قام به على امتداد عمله الأدبي، من خلال اقتراباته المتعاقبة من “حفرياته”.

إزاء ذلك، كان البعد الزمني قليل الحضور وقليل التسلط، وهو في جميع الأحوال، كان قليل الوضوح. لذلك، ثمة مفاجأة ما في رؤية إحدى مجموعات غيوفيك الأخيرة، وهي تحمل عنوان “الآن”. لقد اقترب من “الآن”، من هذه اللحظة، بشكل موارب: “إني أراكم/ تشبهونني/ مرتحلين، باحثين، محاولين/ الهروب من الزمن”.

 

شعر

هناك أيام كل شيء فيها أشبه بالحائط

نموذج من المختارات:

رسالة

ينبغي أن أقول لك

رغم أن ذلك سيكلفني

لتعلمي:

بأنني أتكلم

حين أكون وحدي

 

لا تسأليني

عن الذي أقوله

 

لقلته لك

لو كنت أعرف

 

ولو كنت أعرفه

لما كانت لديّ – بدون شك  –

هذه الحاجة كي أتكلم

 

لتعلمي فقط:

عندما أكون وحدي

أتكلم

 

بالتأكيد هو الصمت

في الحقيقة، إنه الصمت

الذي يتكلم

لا نتوقف عن الحديث أبداً

هو وأنا

فالأمر جدي.

 

نتصادم

كل الأيام

في هذه الجبهة

التي تدركين أهميتها

نعود من هناك

ونتحادث

لن نسأم من بعضنا أبداً

نحن الاثنين

لدينا الكثير من الأشياء

التي لن نقولها

تماما كالبحر

والأمواج

وقضية هذا الحائط

كالندم

 

لتسمحي لي

أن أقول لك ما أفكر به:

امرأة

هو الصمت

 

هناك إذا شيء

لنكتشفه

مرجة

منحدرات

كي نقترب منها

نظرة من خلال

أشجار المنحدر

مشهد عىل الجبهة المقابلة

مرجة أخرى

مشابهة للتي هناك

إذا ما كنت

 

مرجة أخرى

وفي الجانب الآخر لهذه المنحدرات

مرجة أخرى

 

أيضا وأيضا

وفجأة أرض بور

أجتازها

أراض أخرى

قرى

لغاية البحر

بحار أخرى

 

علينا الرحيل

ينتثر الفضاء

 

من درب إلى آخر

من عشبة إلى أخرى

 

مرورا بقرب المنازل

هل ندخلها أحيانا

 

من مكان إلى آخر

داخل الأفق

 

حر كالهواء

لكني مسجون مثله

في الفضاء

كاد يكون مضحكا

لو أنه وجد

خلف الحائط

 

–  لو كان بإمكاننا أن نصدق

بأن هناك  –

شياطين، جن

أشباح، تنانين، عفاريت

 

في هذه الكائنات

التي تنوجد حتى لا نصدق وجودها

كليا

والتي تأتي من وقت إلى آخر

جالبة معها من هذه الجهة للحائط

 

بعض التهرج، المزاح

إلى هذه المأساة غير المجزأة إلى مشاهد

لأننا نعيش كي نرحل

 

والمزاج، علينا

أن نضيفه نحن أنفسنا

 

لأن الحائط موجود

سيكون هناك العديد منه

لتخدم عىل الأقل

لتخدمنا

ولنكتب عليه

ما نفعله ضده.

 

هناك أيام

كل شيء فيها أشبه بالحائط

حتى الهواء، حتى

النظرات، نظرته

يدي، يده

وأبحث عن كلمات، عن كلمة

حيث أختبئ، ربما لأنام

أو أنتظر

حتى يعاد اختراع

الأشياء من جديد

كما لو أن المنازل، مثلا

قد سحبت في المحيط

محيطها.

ميدل إيست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى