‘أوراق العشب’ ديوان غيّر مسار الشعر الأميركي والعالمي… والت ويتمان حاز عن جدارة لقب أب الشعر الحر حيث ضرب بكل القوالب الشعرية القديمة عرض الحائط، وتمكن من تحطيم القوالب الأوروبي.
لُقب الشاعر الأميركي والت ويتمان بأبي الشعر الحر حيث ضرب بكل القوالب الشعرية القديمة عرض الحائط، وتمكن من تحطيم القوالب الأوروبية التي كان يصب فيها الشعر الأميركي عنوة. مما جعل هذا الشعر مجرد تقليد باهت يخلو من عناصر الأصالة التي تنبع من تربة الوطن نفسه. آمن بأن الحرية الفردية لن تجد متنفساً لها إلا في الحب. على حين تتمثل الحرية الاجتماعية في الديمقراطية. وأن الحب والديمقراطية وجهان لعملة واحدة هي المجتمع الإنساني كما يجب أن يكون.
أغلب الأعمال التي مارسها والت ويتمان قبل تأليفه القصائد الأولى لهذا الديوان “أوراق العشب” الذي ترجمه ماهر البطوطي وصدر عن مؤسسة هنداوي أخيرا. كانت في الصحافة. حيث تنقل فيما يقرب من عشرين صحيفة في الفترة من عام 1831م إلى 1845م. وكانت مساهمته إما بالاشتراك في التحرير أو رئاسة تحرير الصحيفة. أو المشاركة بالمقالات والقصص والقصائد.
ديوان “أوراق العشب”
يلقى البطوطي في مقدمته الضوء على حياة وشعر ويتمان يقول .” في فبراير عام 1848م. أتيح لويتمان فرصة السفر إلى مدينة نيو أورليانز بولاية لويزيانا للعمل رئيسًا لتحرير صحيفة الهلال اليومية هناك. فاستغل تلك الفرصة كي يزور في طريقه ولايات بنسلفانيا، وست فرجينيا، ميريلاند، أوهايو، كنتاكي، ميسيسبي، ثم لويزيانا أيضا. وقد عمد في أثناء الرحلة إلى تدوين خواطره وتعليقاته بشأن ما يراه من حوله في تلك الأماكن الجديدة عليه. عن الناس والعادات والطعام والمناظر الطبيعية. كما والملابس وطريقة تعامل الناس هناك وأسلوب نطقهم للغة أيضا. لكن سرعان ما ترك صحيفة الهلال عائدا إلى نيويورك. في رحلة العودة زار ولايات: ميسوري، إلينوي، وسكنسون، ميتشجان، ثم ولاية نيويورك أيضا. وقد أيقظته تلك الزيارات على مدى رحابة الأمة الأميركية واتساعها وإمكاناتها الهائلة. كما والتنوع الثقافي والعرقي الكبير وانصهاره في شخصية أمريكية متفردة. وقد تمثَّل إدراكه لكل ذلك في قصائده.
ويضيف “في هذه الأثناء، اهتم ويتمان كذلك بعلمين كانا قد شاعا في تلك الآونة، هما: علم الفراسة وعلم المصريات وتاريخ مصر القديمة وحضارتها أيضا. وبالإضافة إلى الكتب التي طالعها ويتمان عن مصر الفرعونية، تعرف بعد ذلك إلى د.هنري أبوت، الذي كان يدير ما أسماه المتحف المصري في وسط نيويورك. وقد كتب ويتمان عن ذلك المتحف عدة مقالات. وقد تضمنت قصائد من “أوراق العشب” رموزًا عديدة وصورًا فخيمة عن الإله المصري القديم أوزوريس وقدراته في الخصب.
ديوان “أوراق العشب” – قصيدة “سلاما أيها العالم”
واستبانت حينذاك أيضًا شهية ويتمان التي لا تحدها حدود للمعرفة. فأخذ يطالع في فروع متعددة، بما في ذلك علم السلالات، والفلك، والجيولوجيا، وتطور العنصر البشري. وقد تبدى الكثير من المعلومات التي تشربها من تلك القراءات في شعره اللاحق. خاصة الأفكار الكونية، والكواكب والشهب. والمعلومات الجغرافية عن البلاد والشعوب في القارات المختلفة، والبحار والمدن والجبال أيضا. فأخذ يذكرها ويعددها. كما نرى في قصيدته “سلاما أيها العالم” التي تتضمنها المجموعة التي بين يدي القارئ. وقد طالع ويتمان مؤلفات عددٍ متنوع من الكتاب والفلاسفة، من بينهم دانتي وشكسبير وسبينوزا وملتون وجونسون وبيرنز وسكوت وديكنز وكانط وكارلايل وكولردج وشيلي وكيتس، علاوةً على قراءاته عن الهندوسية والبوذية والطاويَّة والإسلام.
ويؤكد البطوطي. أنه بعد كل تلك الاستعدادات التراكمية، أصبح والت ويتمان ناضجًا لاستكشاف مهمته بوصفه شاعرًا مجددًا يعبر عن ضمير الشعب الأميركي الرؤيوي. ومن غير المعروف الوقت أو المكان المحددان حين بدأ الشاعر يسطر القصائد التي ظهرت بعد ذلك في أول طبعة من طبعات ديوانه “أوراق العشب”. ولكن المعروف أنه قام بطبع الديوان على نفقته الخاصة، وظهر في 4 يوليو 1855م في بروكلين. وقد صدر الديوان في حلَّة قشيبة، مصدَّرًا بصورة له، من ألف نسخة.ويضم اثنتي عشرة قصيدة، ومقدمة ضافية عن فن الشعر.
ديوان “أوراق العشب” – قصيدة “أغنية نفسي”
وقلب الديوان . هو قصيدته الطويلة المعنونة “أغنية نفسي” المكونة من 52 مقطعًا. والتي تعتبر الركيزة التي صاغ فيها الشاعر أفكاره عن الإنسان والوجود والكون والعلاقات بين المخلوقات. وآراءه عن وحدة الجسد والروح أيضا. وكانت هذه القصيدة هي التي اختصها خصومه بالنقد. لما تبدت فيها من صور حسية لم تكن مألوفةً في كتابات ذلك العصر. ومثَّلت نقلةً نوعية كبيرة في التأليف الشعري. ولم يقتصر تجديد ويتمان على مضمون قصائده؛ بل تعداه إلى الشكل أيضا. إذ ترك لقلمه وخياله العنان دون تقيد بالوزن والقافية . وابتدع لنفسه أسلوبًا خاصا به، حتى في طريقة تهجئة الكلمات وقواعد الترقيم والتكرار المقصود أيضا. والإكثار من العبارات الاعتراضية التي كان كثيرًا ما يسطرها بين قوسين في وسط القصيدة.
ديوان “أوراق العشب” – قصائد الطبعة الأولى من الديوان
ويوضح “القصائد الأخرى التي ضمتها الطبعة الأولى. هي: “أغنية إلى المهن”، “التفكير في الزمن”، “النائمون”، “أغني الجسد الكهربائي”، “وجوه”، “أغنية المجيب”، “أوروبا”، “موَّال بوسطن”، “انطلاق صبي”، “الأساطير العظيمة”. وبعد عام من نشر أول طبعة من “أوراق العشب” أصدر ويتمان الطبعة الثانية المزيدة عام 1856م، أضاف لها عشرين قصيدةً جديدة. ومن هنا تبدو الخطة الفريدة التي اختطَّها ويتمان لقصائده وأشعاره الجديدة. إذ كان يضمها جميعا إلى الديوان الأصلي “أوراق العشب” ويصدره في طبعات جديدة تضم كل ما سبقها. وسار على هذا المنوال حتى آخر حياته، حين أصدر آخر طبعات الديوان عام 1891م، وهي التي بين يدينا اليوم، وتربو صفحاته على الخمسمائة. وفي الفترات التي تخللت إصدار ويتمان للطبعات المختلفة لديوانه، واصل العمل في الكتابة للصحف. فكتب افتتاحيات ومقالات في جميع الموضوعات التي كانت مثارة في البلاد في ذلك الوقت.
قصيدة “فليخيِّم السكون على المعسكرات اليوم”،
وفي عام 1860م، أعد الطبعة الثالثة لديوانه. حيث أضاف إليها 68 قصيدة جديدة ضمها إلى القصائد 32 السابقة التي أجرى عليها تغييرات كثيرة. وتميزت القصائد الجديدة بمفهوم أعمق للحياة. وتصوير أشمل لقطاعات الحياة في المدن الأميركية. وبعد أن شهد ويتمان حفل تنصيب إبراهام لنكولن بعد انتخابه لفترة رئاسية ثانية، في مارس 1865م. وصف الحفل ومشاعره في المقالات التي كان يكتبها للصحف. والتي جمعها بعد ذلك في كتاب نثري بعنوان “نماذج من الأيام”. ومع إدراك مدى إعجاب ويتمان بالرئيس لنكولن وتقديره لشخصيته. يمكن قياس مدى الصدمة التي تلقاها من حادث اغتيال الرئيس في أبريل من العام نفسه، بعد أيام من استسلام القوات الكونفدرالية الانفصالية وانتصار الاتحاديين بقيادة لنكولن ورئيس جيشه الجنرال يوليسس جرانت. وقد حضر الشاعر جنازة لنكولن، وفاضت مشاعره عندها بقصيدته “فليخيِّم السكون على المعسكرات اليوم”. ثم كتب بعد ذلك بقليل القصائد الأخرى في رثاء الرئيس، وهي من أعذب ما كتب من قصائد دخلت إلى وجدان الشعب الأميركي.
والت ويتمان – قصيدة “أيها القائد، أي قائدي”
وحتى اليوم، ما تزال قصيدته “أيها القائد، أي قائدي” تدرس في المدارس ويحفظها الناس عن ظهر قلب. وقد نشر ويتمان قصائد الحرب الأهلية بعنوان “دقات الطبول” عام 1865م، من 53 قصيدة، ثم نشر القصائد في الطبعة الرابعة من “أوراق العشب” مضافًا إليها قصائد مراثي إبراهام لنكولن الأربع.
ويلفت البطوطي أن تجربة ويتمان خلال سنوات الحرب الأهلية أضافت له نضجا وعمقا على كتاباته ومشاعره الإنسانية. فرغم أنه لم يشترك في القتال الفعلي، إلا أنه قد زار جبهة القتال، وشاهد المقاتلين يسقطون، وساعد الجرحى في المستشفيات، وساعد في تمريضهم، وشهد المحتضرين يموتون بين يديه، وكل هذا قد تمثل في كتاباته وقصائده، وعمل على ابتعاد نبرة شعره عن الصبغة الذاتية النرجسية التي تبدت في بعض قصائده السابقة.
لقد عملت الحرب وتجاربه مع وقائعها على وضعه الإنسانية والبشر جميعًا في المركز الذي كان يشغله الشاعر من قبل، وعمقَت تلك المشاهد الأليمة من وجود تيمة الموت في قصائده، فقد شهده وعاينه عن قربٍ كل يوم. وإن مرأى الشاعر للجرحى والقتلى والأطراف المبتورة والأجساد الملطَّخة بالدماء، ومعالجته تلك الموضوعات في كتاباته؛ جعله يتقبل فكرة الموت بوصفها جزءًا لا يتجزأ من عملية الحياة. وفي مقابل فكرة الموت تعمقت أيضًا فكرة الحب في قصائده. وفي يونيو 1865م أصدر الطبعة الرابعة المزيدة ﻟ “أوراق العشب” التي تضم دقات الطبول ومراثي لنكولن، بين ما ضمته من قصائد جديدة.
والت ويتمان – كتاب “مشارف الديمقراطية”
ويشير إلى أنه مع انتشار الاعتراف به بوصفه “الشاعر الأغبر الحميد”؛ أصدر الطبعة الخامسة من ديوانه عام 1870م، وكذلك كتاب “مشارف الديمقراطية” الذي جمع مقالاته وآراءه في الممارسة الديمقراطية في أمريكا، ويقابل فيه بين فكرته عن النزعة الفردية والنزعة الجماهيرية التي تعتمد عليها الديمقراطية، وعبر فيها عن رغبته في وجود “فردية ثرية مزدهرة متنوعة” باعتبارها الأساس الأقوى والأشد أخلاقيا للديمقراطية. وفي ذلك العام، أخذت العلل الجسمانية التي كان الشاعر قد بدأ يشعر بها إبان زياراته للمستشفيات الحربية تتزايد عليه، من أوجاع الرأس والشعور بالدوار ونوبات الاكتئاب وسرعة إصابته بالبرد. بيد أن ذلك لم يمنعه من مواصلة أنشطته العادية والالتقاء بأصدقائه الذين كانوا يتزايدون باستمرار، والذين جعلوا حياته الوجدانية مليئةً وراضية.
والت ويتمان – كتاب “أغصان نوفمبر”،
آخر طبعة من “أوراق العشب” عام 1891م. وهي التي تعتبر أكمل طبعة، كما أنجز ويتمان كتاب آخر يجمع بين النثر والشعر بعنوان “أغصان نوفمبر”. الذي عرض ويتمان في مقدمته آراءه في النظرية الجمالية. واستعرض ما استهدفه من وضع قصائده والأسباب التي هجر لأجلها الموضوعات التقليدية. كما وقارن بين أفكاره عن نظرية الشعر وأفكار أدباء القرن التاسع عشر الآخرين. ومن بين ما ذكره: “إني أعتبر “أوراق العشب” والنظرية التي يقدمها؛ شيئا تجريبيا. على النحو نفسه الذي أعتبر فيه جمهوريتنا الأميركية تجربة فريدة في النظرية التي تقدمها، إن “أوراق العشب” هي نتاج طبيعتي الانفعالية وصفاتي الشخصية الأخرى. وهي محاولة من أولها لآخرها لوضع “شخص”، “إنسان” (هو أنا، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من أمريكا) على السجل. بكامل الحرية والشمول والصدق”.
وجاءت نهاية ويتمان في 26 مارس/اذار 1892م، بعد إصابة الشاعر بالحمى وانسداد في رئته اليمنى. وتوافد الآلاف على المنزل لإلقاء نظرة أخيرة على جثمانه. وفي الجنازة، جرت تلاوة نصوص من كونفوشيوس، وبوذا، والكتاب المقدس، والقرآن الكريم. وأخيرا فإن ويتمان نجح في تغيير مسار الشعر الأميركي والشعر العالمي.
ميدل إيست أونلاين