أوروبا وأميركا.. نهاية حلفٍ قديم؟

 

لطالما جرى اعتبار الولايات المتحدة وأوروبا كوجهين لعملة واحدة في فترات زمنية متعاقبة، لناحية الأهداف والقيم المشتركة. لكن هل سيظل هذا المزعم صحيحاً؟ وهل سيغير اسم الرئيس الأميركي المقبل في العلاقة المتأزمة لهذين الحليفين؟

لا يتغير أعداء وحلفاء الولايات المتحدة بين رئيس جمهوري وآخر ديموقراطي. فالأصدقاء والأعداء لا تحددهم إدارة بعينها وإنما النظام العميق الذي تعمل لخدمته كافة الأحزاب والمؤسسات الأميركية.

لكن ما يختلف بشكل أساسي، هو سياسات كل من مرشحي الحزبين؛ الديموقراطي والجمهوري في التعامل مع الحلفاء أو الأعداء، وفي تحقيق المصلحة العامة العليا للدولة بأقل التكاليف وأفضل العوائد.

علاقة أميركا بالصين، تفيد في التدليل على وحدة الرؤية الأميركية في تعيين “التهديد”، وانقسامها في تعيين الآليات المناسبة للتعامل معه ونفي خطره الحاضر أو المستقبلي. فالمرشحان دونالد ترامب وجو بايدن، ومن ورائهما حزبيهما، يعتقدون أن على الرئيس المقبل أن يسرع في تحجيم القوّة الصينية وسلبها القدرة على التحول لقطب منافس للهيمنة الأميركية، خاصة في شرق ووسط آسيا، وإن اختلف المرشحان في تحديد السبل الضامنة لتحقيق ذلك: الحرب التجارية والعقوبات سعياً لتطبيق الاتفاق التجاري الراهن أو تطويره كما يرى ترامب، أو الاحتواء من خلال تعزيز قوة الحلفاء في شرق آسيا والاتحاد الأوروبي واعتماد الدبلوماسية المناهضة للنظام الصيني.

كذلك وفي حالة الاتحاد الأوروبي مثلاً، لم تكن العلاقة عبر الأطلسي في السنوات السابقة دائماً “على جهاز الإنعاش”، وفق تعبير المسؤولية في “صندوق مارشال الألماني للولايات المتحدة”، (سودها ديفيد ويلب)، لكنها أيضاً لم تكن سليمة تماماً حتى في حقبة الرئيس السابق باراك أوباما. أي أن اختلاف الهوية السياسية للرئيس ليست الفصل في فهم السياسة الخارجية لدولة بحجم أميركا.

لكن مع ذلك، يمكن القول إن السنوات الأخيرة عمّقت الخلافات بين الشركاء الأطلسيين. فمنذ انسحابه من اتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني، ونقل سفارة بلاده إلى القدس، وصولاً إلى فرض رسوم على واردات الفولاذ والألمنيوم من الاتحاد الأوروبي، وإضعاف منظمة التجارة العالمية، وجّه ترامب ضربات متتالية للشراكة مع أوروبا.

وبلغت الأمور حدّ مطالبة الرئيس الأميركي الدول الأعضاء في “الناتو” بسداد ديونها لبلاده، وإبراز معاداته للاتحاد الأوروبي كقوة عبر القارة، بل بلوغ أميركا في عهده “مستوى دولتي روسيا والصين وحركة الإسلام الراديكالي” وفق تعبير رئيس المجلس الأوروبي دونالد توسك.

بالنسبة لأوروبا.. انتهى دور أميركا كـ “شرطي العالم”

بعد كل التوترات السابقة التي فجّرها ترامب بدبلوماسيته الفجّة، أدركت أوروبا أفول العصر الذهبي للعلاقات الأوروبية الأميركية الذي امتد من الحرب العالمية الثانية وحتى ولاية جورج بوش الابن، وهو ما يعكسه التوتر الألماني الأميركي على وجه الخصوص، والذي يظهر في تصريح وزير الخارجية الألماني هايكو ماس، في تموز/يوليو الماضي، حين تحدث عن “تغير” في السياسة الخارجية الأميركية تجاه أوروبا في الفترة السابقة لعهد ترامب، معلناً عن “نهاية” الدور الأميركي كـ”شرطي للعالم”، الأمر الذي يكشف عمق الرؤية الخارجية الألمانية التي باتت تبحث عن شراكة متعددة ولو مع خصومها التقليديين (روسيا مثلاً) لتعويض خسارتها للرعاية الأميركية، وليس آخرها سحب 12 ألف جندي أميركي وإعادة توزيعهم في أوروبا، وفرض واشنطن لعقوبات على جهات ألمانية نتيجة علاقاتها بمشروع الغاز المشترك مع موسكو “نورد ستريم 2″.

ورغم التهديد الذي يمثله فوز ترامب بولاية ثانية، لا يبدو أن أوروبا قادرة على النهوض بنفسها من جديد كقوة عالمية موحدة سياسياً بشكل كبير. لا شك بأن دول أوروبا الشرقية ستكون عقبة أمام إعادة توحيد المصير الأوروبي، إذ تفضّل الأخيرة الاتصال بواشنطن على الاتصال ببروكسل، مضافاً إلى ذلك الاختلافات الكثيرة والتاريخية في استراتيجيتي ألمانيا وفرنسا، والخروج القريب للمملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وما يعنيه ذلك من خسارة الاتحاد لواحد من أعمدته الأساسية.

هناك مسألة أساسية في هذا الشأن، تتخطى اسم الرئيس الأميركي المقبل، وهي صورة أميركا في أذهان الشعوب الأوروبية، والتي لن يكون من السهل تغييرها حتى وإن استلم الديموقراطيون المكتب البيضاوي، فقد أظهرت استطلاعات رأي لـ”مركز بيو للأبحاث” أن صورة الولايات المتحدة في أوساط الأوروبيين تراجعت إلى مستويات قياسية، ولم يعد إلا 26% من الألمان ينظرون بشكل إيجابي الآن إلى القوة العظمى، وبشكل أعم ينظر كل 2 من 3 أوروبيين إلى أميركا بشكل سيّئ.

في الطرف الآخر من المشهد، قد تكون بريطانيا التي شارفت على الخروج الرسمي من الاتحاد الأوروبي، الأكثر انتظاراً بين جيرانها الأوروبيين لأن يرأس ترامب الولايات المتحدة لـ4 سنوات أخرى، حيث لا يمكن إنكار مدى تقارب سياسية البلدين في عهد المحافظين، والعواقب السيئة التي يمثلها وصول ذي الأصول الايرلندية بايدن إلى الرئاسة، خاصةً وأن الأخير معارض لمغادرة بريطانيا من الاتحاد.

قد يكون الديموقراطيون الأقرب لأوروبا، والفرصة الوحيدة لتصغير الهوّة التي توسعت في السنوات الماضية (وليس ردمها بشكل كامل على الأرجح)، لكن ذلك لن يكون مضموناً بالمطلق، إذ ليس بالإمكان التنبؤ بمدى قدرة بايدن على معالجة الخلافات المتراكمة، إذا أخذنا بالاعتبار انشغاله بأزمات أميركا الاقتصادية والصحية، واهتمامه بنقل مركز الثقل الأميركي من الأطلسي إلى المحيط الهادئ، لمواجهة الصين.

حسب علماء الجيولوجيا، تتباعد صفيحتي أوروبا وأميركا الشمالية بشكل مستمر إنشاً واحداً سنوياً. على الأرجح، التباعد السياسي بين القارتين يسير بشكل أسرع بكثير. لكن إلى أي قدر؟ إلى القدر الذي سيتعذّر الحديث بعده عن حلف بين هاتين القوتين؟

 

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى