ليست هذه المرة الأولى التي تعود فيها أزمة الصناعة الدفاعية في أميركا إلى الواجهة، وهي لم تبدأ حتماً مع حروب واشنطن في العراق وأفغانستان، حيث واجه الجنود الأميركيون، بانتظام، نقصاً في المعدات والذخيرة. بل لهذه الأزمة تاريخٌ يمتدّ على مدى 70 عاماً، قوّضت خلالها عمليات الاندماج والخصخصة والاعتماد على المصادر الخارجية في الصناعة والسعي الدائم وراء جني الأرباح، ما يُزعم أنّها «ترسانة الديموقراطية» في العالم، وجعلتها شبه عاجزة عن خوض حرب مستقبلية مباشرة. تعود جذور هذه المشكلة بشكل أساسي إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، عندما بدأت صناعة الدفاع الأميركية تشهد «تدهوراً» كبيراً. فقد ساهم تغلغل الخصخصة في هذه الصناعة خلال الحرب الباردة، جنباً إلى جنب مع تراجع استثمار الحكومة الفيدرالية فيها وتراجع إشرافها على التعاقدات الدفاعية منذ الستينيات، نتيجة ضغوط مارسها مقاولو الأسلحة الكبار على الكونغرس، في زيادة عدم الكفاءة والهدر، ودفع الصناعة الدفاعية بعيداً عن سلّم الأولويات، بحسب تقرير لمجلة «فورين أفيرز» الأميركية، وهو ما عقّد، حالياً، تقديم المساعدة الأميركية الكافية إلى أوكرانيا، وجعل بعض المراقبين يحذّرون طوال الفترة الماضية من أنّ الترسانة الأميركية في «حالة يرثى لها»، وغير مستعدة لأي صراع مستقبلي مع روسيا أو الصين.
وهنا لا بدّ من ذكر عشاء عام 1993 في البنتاغون، المعروف في أواسط المهتمين بشؤون الدفاع، باسم «العشاء الأخير»، والذي حذّر قادة البنتاغون خلاله الرؤساء التنفيذيين لأكبر شركات الدفاع في البلاد من أن الميزانية المخصّصة للدفاع على وشك الانخفاض بسرعة. وفور تلقيها الرسالة، بدأت هذه الشركات بالاندماج، فانخفض عدد مقاولي الصواريخ التكتيكية، مثلاً، من 13 إلى ثلاثة، والطائرات الثابتة الجناحين، من ثمانية إلى اثنين. وكان من تبعات ذلك أيضاً أن ضاعت آلاف الوظائف، فيما اكتفت الإدارة الأميركية برئاسة بيل كلينتون وقتذاك، بتقديم مساعدة «ضئيلة» للّذين باتوا عاطلين من العمل. خلال تلك السنوات أيضاً، كان «اللاعبون الرئيسيون» في صناعة الدفاع الأميركية يتهافتون على العقود الحكومية للحصول على أسلحة تجريبية باهظة الثمن، والتي تعود عليهم بأرباح كبرى، مقارنة بإنتاج الأسلحة الصغيرة والذخيرة. ونتيجة لذلك، باتت هذه الصناعة غير قادرة «على الاستجابة للأزمة في أوكرانيا، وغير مؤهّلة لتلبية احتياجات الأمن القومي الأوسع للولايات المتحدة وحلفائها».
مقارنة سريعة
يختلف وضع صناعة الدفاع اليوم، وفق ما تورد «فورين أفيرز»، عن ذلك الذي كان سائداً خلال الحرب العالمية الثانية. آنذاك، كانت الحكومة تدير الجزء الأكبر من هذه الصناعة، ولا سيما في عهد الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي أطلق مجموعة من البرامج الاقتصادية التي عُرفت باسم «الصفقة الجديدة» في محاولة للاستجابة للكساد الكبير.
وقد أنتجت تلك الصفقة مجموعة من الوكالات التابعة للحكومة الفيدرالية، والتي عُرفت أيضاً بـ«وكالات الأبجدية»، مثل «إدارة تقدم الأشغال لتعزيز التوظيف»، التي سهّلت عمليات التعاقد في زمن الحرب، أو «مجلس إنتاج الحرب» الذي أُنشئ عام 1942، وحشد الأعمال وتقنين الموارد لجبهة المعركة. في الحقبة المذكورة، تركّز إنتاج الأسلحة في بناء السفن والطائرات، مع تمركز الكثير من الشركات في المراكز الصناعية المملوكة للدولة والخاضعة لإدارة الحكومة في الشمال الشرقي والغرب الأوسط من البلاد. وبالأرقام، كانت الحكومة تدير ما يقرب من 90% من الطاقة الإنتاجية للطائرات والسفن والبنادق والذخيرة. نتيجةً لما تقدم، وعقب قصف اليابانيين قاعدة بيرل هاربور، عام 1941، سمحت السيطرة الفيدرالية على الإنتاج الدفاعي، واستجابة إدارة روزفلت السريعة للهجوم، بالتحول السريع من الإنتاج المدني إلى الإنتاج العسكري، في شركات مثل «فورد» و«جنرال موتورز»، التي انتقلت سريعاً من صناعة السيارات إلى صناعة القاذفات. وفي أعقاب الهجوم، لم تقتصر الأرباح على الشركات الكبرى، إذ عمدت الحكومة الفيدرالية إلى دعم المقاولين الصغار من الباطن، الذين ينتجون المواد الضرورية للحرب في المصانع التي تديرها الحكومة، ما حال دون سيطرة أي مجموعة صغيرة من المقاولين الأقوياء على الصناعة، على عكس ما يحصل مع «الخمس الكبرى» اليوم، أي «بوينغ»، و«جنرال ديناميكس»، و«لوكهيد مارتن»، و«نورثروب جرومان»، و«رايثيون».
وعلى الرغم من ارتفاع الإنفاق الدفاعي مرة أخرى بعد هجمات 11 أيلول، فلم تشهد الصناعة الدفاعية أي تغيّر يُذكر، بل استمرت عمليات الدمج في النمو خلال ما سُمّي بـ«الحرب على الإرهاب»، حتى وصلت، حالياً، إلى أرقام قياسية. وفي هذا الإطار، يشير تقرير أوردته صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، إلى أنّ ستة مقاولين كبار تقريباً باتوا يتقاسمون غالبية إنفاق البنتاغون على المعدات العسكرية، مقارنة بنحو خمسين شركة كانت تتنافس لكسب العقود الكبيرة في التسعينيات، ما جعل الشركات الصغيرة، تعاني من نقص في العمالة والرقائق ومحرّكات الصواريخ والمكوّنات الأخرى، وتخرج من المنافسة تقريباً، وأعاق بالتالي جميع الجهود المبذولة لتعزيز إنتاج الأسلحة بالسرعة والكمية المطلوبتين.
محاولة «استدراك» الأزمة
تبذل السلطات الأميركية اليوم جهوداً لتدارك هذه الأزمة، إذ يعيد مسؤولو وزارة الدفاع النظر في شأن عمليات دمج شركات الصناعات الدفاعية، كما حاولت وزارة العدل الأميركية، العام الماضي، وقف الدمج بين شركتين للأمن السيبراني، رغم أن قاضياً رفض سابقاً منع الاندماج. كما رفعت «لجنة التجارة الفيدرالية» دعوى قضائية، في كانون الثاني الماضي، لمنع خطط شركة «لوكهيد مارتن»، من شراء شركة «إيروجيت روكتداين هولدنجز» لصناعة الصواريخ مقابل 4.4 مليارات دولار، ما أجبر «لوكهيد» على إسقاط الصفقة. إلا أنّ المراقبين يرون أنّ واشنطن غير قادرة على تصحيح تلك المشاكل التي خلقت، بنفسها، جزءاً كبيراً منها، بين ليلة وضحاها، إذ إنّ الحلول الشاملة، المختلفة عن مجرد التدقيق في عمليات الاندماج وغيرها، والتي تقضي بفرض سيطرة حكومية أقوى على الصناعة على المديين القريب والبعيد، تتطلب وقتاً كبيراً. أضف إلى ذلك، أنّ ما يشغل انتباه المحللين بشكل أساسي حالياً، هو كيفية تجديد مخزونات الأسلحة لضمان عدم استنفاد الولايات المتحدة لمجمل ترسانتها، في وقت تبدو فيه تلك المهمة «مستحيلةً، نظراً إلى ندرة العمالة الأميركية الماهرة»، وفق ما تورد «فورين أفيرز»، بعدما عانى مقاولو الدفاع، لسنوات، لتوظيف عمال في صناعة يستغرق تعليم العاملين فيها وتدريبهم وقتاً لا تملكه أوكرانيا حالياً. بمعنى آخر، لا تملك الولايات المتحدة القوة العاملة اللازمة لإنتاج عدد صواريخ «جافلين» التي طلبتها أوكرانيا، بعدما استهلكت الأخيرة ما كان يفترض أن يكون إمداداً لمدة خمس سنوات من هذه الصواريخ، في الأشهر الستة الأولى من الحرب، وما كان يفترض كذلك أن يكون إمداداً لمدة ست سنوات من صواريخ «ستينغر»، في غضون عشرة أشهر فقط.
وللاعتماد على المصادر الخارجية في صنع الأسلحة دوره أيضاً في هذا العجز الغربي، وهو يعود بشكل أساسي إلى الحقبة التي تلت الحرب في فييتنام عام 1973، عندما بدأت ميزانية الدفاع في الانكماش، وأصبحت صناعة الدفاع قائمة على مبيعات الأسلحة الأجنبية، فارتفعت مثلاً، صادرات الأسلحة إلى بلدان الجنوب من 404 ملايين دولار، في عام 1970، إلى 9.9 مليارات دولار في عام 1974، جنباً إلى جنب مع تراجع التصنيع المحلي، والاستعانة المتزايدة بمصادر خارجية للتصنيع. وقد تسبّب هذا في إغلاق المصانع وفقدان الوظائف، ما دفع البنتاغون إلى التحذير، في عام 1988، من أنه «في حالة الطوارئ الوطنية، قد تكون عواقب الاعتماد الواسع على المصادر الأجنبية شديدة».
المواجهة الأخطر
ووسط هذا التعثر كلّه، يبدو أنّ «إلحاح» زيلينسكي على تلقّي المزيد من الأسلحة الغربية، ومن بينها المقاتلات المتطورة، لن يكون مصدر «الإزعاج» الوحيد لواشنطن مستقبلاً، إذ إنّ خطراً أكبر يحدق بها، وقد بات أقرب من أي وقت مضى؛ وهو إمكانية اندلاع أي نزاع مستقبلي محتمل مع الصين حول تايوان. في السياق، يؤكد تقرير صادر عن «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» (CSIS)، والذي نشر تصوّرات عدّة لأي حرب قد تندلع بين بكين وواشنطن، أنّ القاعدة الصناعية الأميركية «غير مؤهلة» لصراع من هذا النوع. ويتابع التقرير أنّه في صراع إقليمي كبير، فمن المرجّح أن يتجاوز استخدام الولايات المتحدة للذخائر الكمية المتوفرة في المخزونات حالياً. ومن المحتمل أيضاً أن تنفد بعض الذخائر من مخازن الولايات المتحدة، على غرار الذخائر البعيدة المدى والموجّهة، في أقل من أسبوع من القتال في مضيق تايوان. كما أنّ القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية تفتقر إلى القدرة على الارتقاء الفوري الكافي لتلبية متطلبات حرب كبرى، ما يجعل من الصعب على الولايات المتحدة الصمود في صراع طويل الأمد. وما يجعل المشكلة أكثر خطورة بالنسبة إلى واشنطن، هو أنّ معدل حصول الصين على أنظمة ومعدات أسلحة متطورة أسرع بخمس إلى ست مرات منها، وفقاً لتقديرات الحكومة الأميركية نفسها.