“أيام الكراهية والكلاب” تحمل صورة سينمائية لقرية الستينيات

 

رواية “أيام الكراهية والكلاب” للكاتب الكبير خيري حداد تحمل صورة نمطية للمتناقضات التي كانت تعيشها القرية المصرية في سيتنيات القرن العشرين، حيث رسمت الرواية الحالة الاجتماعية التي برز فيها سطوة الرجل على المرأة بشكل بشع، أما علاقة القرويين ببعضهم البعض فقد امتزج فيها الضعف بالجهل، والتودد بالتنافر، والحب بالكراهية، وقد رصدت الرواية بدقة بالغة علاقة مجتمع ملاك الأراضي الزراعية من الطبقة المتوسطة وفوق المتوسطة بين بعضها البعض حيث الغيرة، أما مساحة الرزيلة بين طبقة المعدمين في مجتمع الأنفار فقد تمددت لبيع الغالي والنفيس من أجل لقمة العيش وعلى رأس ما يتم بيعه هو شرف المراة التي تأكل بثديها.

نجح الكاتب في رسم صورة سينمائية عبر شخوص روايته؛ وبما يعبر عن بيئة الرواية، فنجد “حداد” بطل الرواية بحولته وإدمانه للنساء؛ كذلك صورة زوجته العاقر “لبيبة” ومكرها الشديد، وأهلها الطماعين وخاصة “رزقه” تلك المرأة الجشعة والمتسلقة والتي تحيك المؤمرات لطرد الزوجة الثانية الولود “حميدة” تارة بالسحر وتارة بسوء المعاملة، ولكن الطفل “حسن” الابن الصغير ينتقم منها بسبب تسلطها على أمه ويطرد شلة الشر من منزل أبيه، وتبدو لنا شخصية “لظيمة” خياطة القرية على هيئة المرأة الناعمة القادمة من المدينة بنعومة نساء الإسكندرية والتي تتمتع بجمال يجعلها محط أنظار الرجال، كذلك مجتمع الأنفار والأثرياء وجلساء القهوة من الأثرياء.

أما بيئة الرواية فكانت معبرة عن المحتوى، فمن حيث طبيعة المكان حيث تدور الأحداث ما بين الحقل، وشوراع القرية، والبيت الريفي الذي يتكون من حوش كبير وزريبة للبهائم، وعدة غرف أهمها غرفة الفرن والمندرة غرفة الزوار، كذلك يمتليء فضاء الرواية بمصطلحات قروية مثل “الكانون” موقد الطهي، والمنقد الفخار أو النحاسي المخصص لعمل الشاي بقوالح الذرة الجافة، والساقية، والحمير والبقر والجاموس وغيرها، وبالتالي يشاهد القارئ تكاملا بين الشخصيات والبيئة الروائية قولا وعملاً وهذا يضفي متعة في مواصلة القراءة، ومن حيث المضمون حمل النص الكثير من القضايا التي لا يزال بعضها عالقًا بخاصرة المجتمع حتى تاريخه منها ما يلي:

أهم ما تطرحة الرواية هو تحذير الجميع من الآثار الاجتماعية الخطيرة التي يمكن أن تدمر السلام الاجتماعي علاوة على فقدان الشعور بالمواطنة لدى شرائح متعددة بسبب الفقر

القرية وقهر المرأة

طرحت الرواية نموذج الرجل سي السيد والمهمين على المرأة في شخص “حداد” الذي يتزوج من امرأة ثانية من أجل الإنجاب، وكيف جمع بين زوجتين في بيت واحد، ليدور صراع حامي الوطيس بين ضرتين، ونظرًا لفحولته الخارقة يضيف الرجل المهمين ثلاث نسوة من أرامل الفقراء إلى ذمته بالتناوب عرفيا، فيكون له زوجتان في المنزل وأخرى في الحقل يختلي بها في غرفة التبن، وثالثة في بلد مجاور يذهب إلها كلما ضربه الشوق، وهذه الفحولة والتنقل بين أحضان النسوة اقترنت بظروف خاصة؛ أهمها قدرة الرجل الخارقة، فإذا كانت فكرة الزواج بأكثر من واحدة تتعارض مع جوهر العدل بين النسوة؛ إلا أن هذا السلوك كان مبررًا في وقتها؛ لأن عزوة الرجل في المجتمعات الزراعية مرتبطة بما ينجبه من أولاد،  كذلك الزواج من الأرامل كان في شق منه بهدف الرعاية المادية، ولكن هذا لا يبرر التمييز المبكر داخل القرية منذ الطفولة حيث  تفضيل الذكور على الإناث، وهذا ما برز جليا في تدليل “حسن” الابن عن أخته “سعاد”؛ سواء في نوع الطعام أو الملبس وغيرها.

الفقر يسحق الكرامة

تصور لنا الرواية كيف يسحق الفقر كرامة الإنسان من خلال نماذج من العلاقة المحرمة بين الرجال والنساء المعدمات، وقد ربط المؤلف هذه الصورة بطبيعة  العلاقة بين ذكور الكلاب وإناثها، حيث يدور محور هذه العلاقة حول التخلص من وهج الرغبة، وفي تصوير عملية الخضوع المطلق لرأس المال أشترك الفقراء والكلاب في الوفاء لصاحب الأطيان لأنه ولي النعم؛ حيث السمع والطاعة من الإنسان والحيوان لملاك الأراضي.

وهنا تشير الرواية بشكل لا لبس فيه إلى أن الفقر والجهل هما أساس البلاء، لأن الفقر يسحق الكرامة البشرية، ولكن المفارقة أن الفقراء رغم شدة العوز ينجبون كالدجاج،  فيولد أبناؤهم بين أحضان الفاقة؛ لتمتليء بهم الحواري والطرقات في مجتمع بالغ القسوة.

يقول الكاتب في تصوير هذه المأساة في حوار بين الطفل حسن والشابة سميرة في ص 58:

–    إن النساء قليلات الحظ .. إنهن غلابة ولا غلابة… إن أي إنسان من نوع اللبن الذي شربه من ثدي أمه ونوعية طعامه تكون الجسد.

–    يبدو هذا صحيحًا… إن هؤلاء يأكلون الجبن الحادق والبصل والمش وأن أمهاتهن يرضعنهن من ثدي جاف لبن ناشف من خلاصة البتاو والجبن والمش ليس فيه غذاء.

حال أولاد الفقراء الذين دخلوا المدرسة

هكذا يؤدي الفقر إلى شعور الفرد بالانكسار والذل، والظلم بسبب عدم قدرته على تلبية احتياجاته الأساسية، ولذا ينصهر في بوتقة التبعية المطلقة للسيد، وهذا ما برز في شخصية “رجب” نفر الحاج “حداد”، وشخصية “أم إبراهيم” خادمة المنزل حيث الولاء الكامل.

تسبب الفقر في اتساع الهوة بين أفراد القرية وهذا ينميّ مشاعر الحقد، وقد برز ذلك من خلال قيام “صلاح” بسرقة الذرة من حقول الأغنياء حقدًا عليهم، أما دور الفقر في قتل الإنتماء للوطن فقد ظهر في قبول الفاجرة شنآنه وأخوتها الذكور وزوجها بقبول فكرة مغادرة القرية بلا رجعة عندما تم طردهم، فلم يتمسكوا بالبقاء في مسقط رؤسهم؛ لأن الوطن الذي نشأوا فيها لم يمنحهم فرصة للحياة فهان عليهم كما هانوا عليه.

التفكك الأسري

من أهم الأخطار المقترنة بالفقر ظاهرة التفكك الأسري لأن شدة الفقر بالقرية كانت تؤدي إلى اضطراب يعرقل الأسرة عن أداء رسالتها في تربية الأطفال عن الوجه الأكمل، ولذا اقترن مستقبل الطفل في  حالات كثيرة بالإنحراف والإجرام لأن الأسرة بوصفها الجماعة الأولية والبيئة المنتجة للأجيال فقدت قدرتها على تلبية حاجاته البيولوجية والإجتماعية والنفسية للصغار؛ وبالتالي سوف تنهار مجموعة القيم السائدة في مجتمع يعاني من هذا المرض.

وقد صورت الرواية ذلك على لسان “حسن” عندما دخل المدرسة وتعامل مع ضحايا شظف العيش في (ص 30) في قوله: “دخلت المدرسة وكأني أدخل سجنا … كان التلاميذ يلعبون في الحوش.. من يتشاجر … من يشتم لآخر … من يبصق .. من يرقع … هي الفوضي والألفاظ النابية التي أكرهها”.

إذا كان هذا هو حال أولاد الفقراء الذين دخلوا المدرسة، فما بالك بأطفالهم في الشوارع وعلى ناصية الطرق؟ في كل زمان ومكان سوف يهجر الكثير من أولاد الفقراء المدرسة، وسوف تزداد معدلات التسرب، ليتسكع المتسربون في الحواري والطرقات، ويخطفون الطعام ويسبون بعضهم البعض بأبشع الألفاظ، وسوف يعادون أقرانهم من أولاد الأغنياء.

يتضح مما سبق أن أهم ما تطرحة الرواية هو تحذير الجميع من الآثار الاجتماعية الخطيرة التي يمكن أن تدمر السلام الاجتماعي علاوة على فقدان الشعور بالمواطنة لدى شرائح متعددة بسبب الفقر؛ وهذا الأمر يتطلب من المسئولين في كل البلدان العربية ضرورة وضع برامج تنموية جادة حتى يتحقق مبدأ الحياة الكريمة لكل مواطن، وأيضًا لحماية الأوطان من الآثار السلبية المقترنة بظاهرة الفقر.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى