أيقونة حضارية مجبولة بالخيبات المتلاحقة
تأخرت كثيراً إطلالة الكاتبة والناشطة المصرية المعروفة نوال السعداوي عبر السينما التسجيلية. وكأن النوع السينمائي الذي يُوثق الواقع والمهموم بالحقيقة والشغوف بالشخصيات المُثيرة والمشاكسة، ضل طريقه إليها أو يقف مرتبكاً وعاجزاً عن إيجاد المدخل والمُقاربة المناسبين لتقديم هذه الأيقونة الجدليّة. هذا ما تبدى من فيلم «الصوت الحرّ لمصر – نوال السعداوي» للمخرجة الألمانية كونستانسه بوركارد، والذي عرض قبل أيام قليلة في مدينة لاهاي الهولندية ضمن مهرجان «Movies that Matter» السينمائي. ذلك أن الفيلم يكشف ضمنياً لَبس صعوبة تناول الكاتبة سينمائياً اليوم فقط، بل كذلك فداحة ما تغيّر في العقود الثلاثة الأخيرة في مصر وفي الشرق العربي كله، لينقلب الاحتفال الذي كان الفيلم أعده للسعداوي، إلى تأبين جديد لزمنها ومُثلها والأهداف الذي خاضت من أجلها معارك شرسة طويلة، انتهت مُعظمها بالخسارات.
عودة إلى البدايات
اختارت المُخرجة أن تعود مع نوال السعداوي إلى البدايات والجذور. حيث تحمل هذه المقاربة التي تبدو تقليدية فهماً لواقع وسيرة الكاتبة، كما تشكل أحد مداخل الاستدلال على الظروف التي أسست لشخصيتها المتمردة والحادة. فالفيلم سيعود معها إلى قرية «كفر طحلة»، حيث ولدت عام 1930. وهو المكان ذاته الذي عادت للعمل فيه كطبيبة بعدما أنهت دراستها في القاهرة بعد عامين من ثورة يوليو عام 1952. وستكون تلك القرية، مسرح أحداث حياة الكاتبة الأول، إذ فيها تعرفت على المظالم الأولى وتذوقتها كفتاة في مجتمع ذكوري رجعي، ومنها ستنطلق ثورتها النسوية التي، رغم مرور أكثر من نصف قرن على بداياتها الأولى، ما زالت مُتفردة وليس لها خليفات بالمقام نفسه حتى الساعة.
يجتهد الفيلم لكي يربط ويوازن بين مسارين: الأول يستعيد السيرة الشخصية لنوال السعداوي، عبر اتكاله الكامل على مقاطع من مكاشفات الكاتبة الذاتية من التي كتبتها في حقب زمنية مختلفة ووزعتها على كتبها العديدة، تمت قراءتها باللغة الإنكليزية عن طريق ممثلة، لتمثل ما يشبه الخلفية الصوتية لمشاهد القاهرة والريف في الفيلم. وبين مسار آخر انشغل بتسجيل يوميات حياة الكاتبة في الزمن الحاضر. فيرافق الفيلم الكاتبة في زيارتها إلى قريتها، بعد انقطاع سبعة أعوام بسبب الظروف الأمنية. لكن تلك الزيارة التي رافقها سيرك رسمي في القرية، تكشف عدائية شديدة مُبطنة مُتواصلة ضد الكاتبة، التقطها الفيلم بدون تخطيط، فالمدرسة التي تلقت الكاتبة تعليمها الأول بين جدرانها، لم تشأ أن تذكر أشهر طلابها في لوحة علقت في أحد ممراتها وضمت أسماء طلاب آخرين من الذين حققوا التفوق في مهن أخرى ليس الأدب من بينها. كما أن المكتبة العامة الصغيرة في القرية، والتي شيدت في زمن رغبت فيه السلطات السابقة أن تصالح الكاتبة فيه وتكرمها، لا تضم اليوم أياً من كُتب نوال السعداوي.
لا تتحدث نوال السعداوي مباشرة للكاميرا في هذا الفيلم. ربما لأنها قالت كل ما يجب أن يقال في نصف القرن الماضي، أو أن الفيلم اكتفى باستعادة سيرتها المكتوبة بخط يدها، والتي تميزت بالصدق الشديد والجرأة، حتى عندما مرت على تجارب حميمة خاصة، كالختان الذي تعرضت له عندما كانت طفلة، ورفضها لما تتعرض له النساء من ظلم في محيطها، وتوقها للثورة. في المقابل يحاور الفيلم شخصيات نسائية، لتقييم الأثر الذي تركته نوال السعداوي في بلدها. من الشخصيات التي تظهر في الفيلم، ستتميز سيدتان، إحداهما مُثقفة ستحلل بفهم كبير تركة نوال السعداوي الفكرية والإنسانية، والأخرى تعيش في القرية التي ولدت فيها الكاتبة المصرية، وعاشت حياة مختلفة كثيراً عن كاتبة القرية الشهيرة. شهادة هذه الأخيرة ستكون الأكثر تأثيراً وتعبيراً عن حال المصريات اليوم، فهي من جهة ستكشف أن لحظات الفخر الوحيدة بنفسها وجنسها تكون عندما تشاهد نوال السعداوي، لكنها من الجانب الآخر تعتقد أن لا شيء تغير على الإطلاق في حياة ملايين النساء من أمثالها، وأنهن ما زلن أسرى المناخ الاجتماعي المتزمت، وسلطة الرجل وظلمه.
رغم أن الاهتمام ما زال يحيط بنوال السعداوي أينما حلت، إلا أنها لم تعد مُؤثرة أو فعالة كما كانت قبل عقود. هذا الأمر يبدو جليّاً في الفيلم، وربما حدد مساره أيضاً، ليس فقط عبر تركيزه على سيرة الكاتبة المصرية السابقة، ولكن أيضاً عبر دورانه حول مفهوم القيمة التاريخية للسيدة أكثر من قياس ما يثيره وجودها من تفاعل اليوم. لا شك في أن خطاب نوال السعداوي النسويّ الليبرالي المُتشدد، وعدم تواصلها مع أجيال المصريين الجدد عبر وسائلهم التكنولوجية الحديثة، والإهمال الرسمي الذي يصل إلى العداء الذي طبع علاقتها بالمؤسسات بكل أنواعها، ساهمت في تحجيم دور الكاتبة في السنوات الأخيرة، هذا رغم أنها تشكو لليوم من تأثيرات آرائها السابقة، فهي تعيش تحت حراسة دائمة من الأمن المصري، بسبب تهديدات لم تتوقف عن تعكير حياتها.
حرية ما…
تبدو نوال السعداوي في أعوامها الأربعة والثمانين، وكأنها تحررت من مفاهيم الجنس والهوية والعمر. تحاول أن تبقى وفية لنشأتها الريفية والتزامها بقضايا الفقراء والنساء والمهمشين، رغم صعوبة ذلك، بسبب انقطاعها الطويل عن ذلك العالم. إلى جانب تقديم السعداوي الكاتبة الناشطة، تلتقط المُخرجة مشاهد حميمة من الحياة اليومية لبطلتها، بعضها يُظهر لحظات ضعف إنسانية، عندما ترفع الكاتبة جهاز الكمبيوتر المحمول وتقربه إلى وجهها حتى تستطيع قراءة ما هو مكتوب على الشاشة، أو عندما تمارس الرياضة في الشارع قرب بيتها، في مشهد كان يظهر على طرف كادره أحد حراس الأمن المصريين، الذي كان يشرف رمزياً على المشهد، وفعلياً على الحياة في الشارع من حوله.
صحيفة الحياة اللندنية