أين أنت الآن يا أمي ؟!
تحدثت عن أمي شعراً و نثراً أكثر من مرة ، ولكن المناسبة المريعة التي تدفعني الآن للكتابة عنها من جديد تجربة قاسية غريبة أواجهها الآن لأول مرة في حياتي ، ولا بأس أن أروي لكم أولاً بعضاً من ذكرياتي عن تلك المرأة التي كانت أمي كي تفهموني جيداً لماذا أعود إلى الكتابة عنها من جديد.
أمي من أسرة لبنانية في طرابلس – الميناء – أما أبي فقد كان موظفاً كمحاسب تابع لوزارة المالية في مدينة بانياس الساحلية أرسل أخته الكبرى إلى طرابلس تفتش له عن عروس ، وقد وجدتها في أسرة رجل كان يعمل مؤذناً لمسجد ومسؤولا عن فتح بابه وإغلاقه وإماماً للمصلين أحيانا وصاحب صوت قوي رخيم في أذانه كما أذكر، وقد صار جدي لأمي العروس والفتاة التي لا يزيد عمرها وقتئذ عن سبعة عشر عاماً وذات جمال مبهر وصوت قدير مطرب و تلميذة لم تنجز سوى مرحلتها الإبتدائية ثم أخرجتها أسرتها من المدرسة خوفاً عليها من الشبان الذين كانوا يلاحقونها و يزعجونها …
كنت أنا إبنها البكر وأذكر عنها أنها كانت تغني لي بصوت منخفض حين أتهيأ للنوم ، وفي يوم إستقبال الزائرات كل أسبوع تغني لهن وهي تعزف على آلة “العود ” فيتحول ذلك اليوم إلى مهرجان من الرقص والغناء، وكنت أتسلل أحيانا إلى صالة الإستقبال وأنعم بفرحة لا تنسى و أنا بعد غلام صغير .
و حين أسرتني هواية المطالعة وقراءة المجلات و روايات “الجيب” والسير الشعبية الضخمة الموجودة عند جدي في طرابلس فإلى روايات الكتاب العرب والعالمية المترجمة لاحظت أن أمي بدأت تستعير إحدى الروايات وتقرؤها بأكملها إلى أن أدهشتني بقدرتها على فهم المغزى العام للرواية وعلى الأخص روايات نجيب محفوظ ، وهكذا صرت أتبادل معها الحديث حول قراءاتها وحين عرفت أنني صرت أنظم الشعر صارت تطلب مني أن أقرأ عليها القصائد الجديدة وهي تصغي بانتباه عميق ، وكثيراً ما أدهشتني بتعليقاتها بعكس والدي الذي لم يكن يقرأ سوى الجريدة اليومية وهو يدخن الأرجيلة في البيت أو المقهى . أدهشتني حقاً تلك الأم التي لم تعرف من التعليم أكثر من المرحلة الإبتدائية كيف كانت مأخوذة بالروايات الضخمة و سماع الشعر وإسطوانات أم كلثوم وعبد الوهاب وصالح عبد الحي …
توفيت أمي أخيراً في 31 آب عام 2002 ودفناها في قبر إشترته هي من زمان في مقبرة الحرش الكبرى في سفح جبل قاسيون ، وصنع لها أخي الأصغر مروان ضريحاً فخماً من الرخام الناصع البياض في أعالي المقبرة ، وظلت زياراتنا لها في العيدين منتظمة حتى الأحداث الأخيرة حين صارت تلك المقبرة مخبئاً للمحاربين وغدا الباب العلوي للمقبرة مغلقاً بإستمرار بسبب الأحداث وهكذا تباعدت زياراتنا …إلى اليوم الأخير من عيد الأضحى الفائت حين صعدنا طلعة ” شورى ” المعروفة في أول حي ” المهاجرين” أنا و أخي المهندس مروان و حفيدي الشاب أمير صادق فوجدنا البابين مغلقين للمقبرة ، الباب الكبير في الأسفل و الباب الصغير في الأعلى فاستدعينا حارس المقبرة الجديد لأن الحارس القديم ” أبو سعيد ” توفي وحلّ أحد أقربائه مكانه ففتح لنا الباب الكبير وتسلقنا السفح المليء بالقبوربصعوبة بالغة وحين وصلنا مكان الضريح فوجئنا أن قبراً آخر قد حل مكان قبر الوالدة الذي إختفى … لقد سرقوا القبر إذن بإشراف الحارس “أبو سعيد ” بالتأكيد مقابل مبلغ مالي كبير في هذه الأيام و قد أنكر الحارس الجديد معرفته بهذا الموضوع وهكذا عدنا خائبين ونحن نشكو فظاعة هذه الأيام التي أطاحت بكل قيم الحياة الأخلاقية السامية …
ماذا نصنع الأن يا أماه ؟ لمن نرفع شكوانا ؟ لقد سرقوا قبرك وحرموني تلك الخلوة العاطفية مع ضريحك وكأنك تسمعين قراءاتنا ونجوانا. أهذه هي سوريا الجديدة المهددة بفقدان كل القيم الأخلاقية ؟.. أين أنت الآن يا أم شوقي الذي سيلحق بك بعد قليل …وهل سيسرق اللصوص قبري أيضا الذي ينتظرني في مقبرة ” الباب الصغير” ؟!…