أين هي ثقافة اليوم ؟

 

منظر لا ينسى ! أن أشاهد أهل الدار مع زوارهم أحيانا في مجلس واحد صامتين و في يد كلّ منهم جهازه للأنترنت وهو غارق في التفرج على مشاهدات كان يتابعها بإهتمام شديد .

و قد تمضي أحيانا ساعات على هذه الجلسة التي تقطعها مشاغل خاصة عن تحضير الطعام أو وجباته المشتركة واللذيذة غير أن باقي الوقت – و هو الأغلب – فقد كان مخصصا لتلك الجلسة المشركة في متابعة التلفزيون أو أجهزة الأنترنت المحمولة باليد …

كنت لا أعبأ كثيرا بمتابعة هؤلاء المشغولين بهذه الأجهزة ولكن مع تكرر المشهد صرت أحسب الوقت الذي ينقضي عليهم في خلوتهم مع هذه الأجهزة فأجد أن معظم أوقات هؤلاء كانوا ملك تلك الأجهزة وهي في مواجهتهم أو أقرب إليها في الأجهزة المحمولة .

أذكر أن ملاحظتي هذه راودتني أيضا في السويد حيث كنت زائرا مدعوا و خلال تجوالي وحدي في الشوارع هناك في مدينة ” مالمو ” كنت ألاحظ وجود محلات واسعة لها واجهات زجاجية عريضة على الشارع رأيت خلالها صفوفا طويلة من الشبان و الشابات وقد جلسوا أمام جهاز للأنترنت وهم يتابعون المناظر أو يتحدثون مع أشخاص فخطر لي مرة أن أدخل و أشارك في الجلوس معهم و أنا أحسب الوقت الذي يقطعه الواحد منهم ، فإذ بي أصاب بالدهشة البالغة بعد أن تأكدت أن معظم المشتركين هؤلاء كانوا يقضون نصف يومهم نهارا أو ليلا ، و هكذا بدأت أسأل نفسي : ما هي الثقافة الحقيقية التي يكسبها هؤلاء من خلال متابعة التسليات البسيطة أو الحوارات العابرة التي لا تحمل محتويات فكرية هامة فأقول لنفسي : أليست هذه الظاهرة نوعا من التربية السطحية التي يكرّس لها الشباب كثيرا من أوقاتهم و أنهم – كما تأكدت فيما بعد – يهملون صحبة الكتاب والمجلات الثقافية الرفيعة المستوى .

يمكن القول أن نصف فتيان و شباب أوروبا يشكلون طبقة إجتماعية كل ثقافتهم تقريبا مستمدة من الآلة و ليس من الكتاب والمعاشرة الغنية بالتجارب الثقافية الرفيعة المستوى .

لاشك أن نصف شباب أوروبا في هذه العهود يملكون ثقافة مهزوزة مستمدة من معاشرة الألة وليس من الكتب الجيدة ،  و هنا علينا أن ندرك جيدا أن قراءة الكتب و المجلات الرفيعة أو بتعبير موجز أن القراءة هي التي تصنع الثقافة الحقيقية ذلك أن صحبة الكتاب الجيد هي التي تدفع حقا إلى التفكير العقلاني المعمق بعكس الفرجة السريعة على الأجهزة الألية التي تثير الاهتمامات الخاطفة التي لا تقارن بالتفكير العقلاني الذي يساعد فعلا على إثارة العقل لاكتشاف المعرفة العميقة في حين أن الفرجة السريعة على مشهيات الأجهزة الألية لا تصنع من المعرفة المعمقة سوى قشورها .

و هنا لا بد أن نقف مليا على جواب مقنع حقا على هذا السؤال الهام : ما عي العوامل الحقيقية التي تصنع الثقافة العميقة : الألة ، أم القراءة المعمقة للكتاب الجيد ؟؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى