«إخوان» سوريا في سباق إلى الصدارة بدعم إقليمي!

يعزز «الإخوان المسلمون» حضورهم على أكثر من جبهة سورية مقابل انكفاء محدود لبعض الفصائل ذات التوجه السلفي.

وإذا كانت بعض التطورات الإقليمية قد فرضت إجراء مثل هذا التعديل على خريطة المشهد «الجهادي» في سوريا لمصلحة الفصائل «الإخوانية»، فذلك لا يعني أن الفصائل السلفية، سواء منها «الجهادية» أو «العلمية»، ستقف متفرجة طوال الوقت، إلا أن البعض منها لا يمانع في هذه المرحلة تمثيل دور الانكفاء ريثما تمرّ ما باتت تسمّى «عاصفة الحزم التركية».

وقد تزامن الإعلانُ التركي، الشهر الماضي، عن إقامة «منطقة عازلة أو آمنة» في الشمال السوري، مع بروز نشاط غير مسبوق من قبل غالبية الفصائل المسلحة، لإصدار فتاوى من مرجعياتها الدينية، تتمحور حول الترحيب بإقامة هذه المنطقة ومباركتها دينياً بعدما حصلت على المباركة السياسية من الجانب الأميركي. ومن أهم هذه الفصائل «جيش الإسلام» و «أحرار الشام» و «الجبهة الشامية».

وكان واضحاً أن «كلمة سر» موحدة قد صدرت من أنقرة، ووصلت إلى قيادات هذه الفصائل، تنطوي على أوامر مباشرة بوجوب العمل على «شرعنة» الخطوة التركية وتوفير أقصى دعم ممكن لها. وكانت «جبهة النصرة» الفصيل شبه الوحيد الذي لم يصدر عنه أي كلام مباشر بخصوص «المنطقة العازلة»، برغم أن كبار مرجعياتها في الخارج، أمثال الشيخ أبو قتادة الفلسطيني والشيخ أبو محمد المقدسي، سارعوا إلى رفض المشروع وتحريم التعاون معه. ومردّ صمت «جبهة النصرة» ليس فحسب بسبب وجود خلافات داخلها حول الموقف من الخطوة التركية، حيث أعلن بعض قادتها خلافاً لرأي الشيخين تأييدهم لإقامة «المنطقة العازلة» وأبرز هؤلاء أبو ماريا القحطاني وأبو حسن الكويتي (علي العرجاني)، بل يعود أيضاً إلى تنامي القلق، حتى في أوساط التيار الرافض للخطوة من أن يؤدي الوقوف بوجهها وتحدّي الإرادة الإقليمية والدولية التي بلورتها، إلى انزلاق «جبهة النصرة» نحو فخّ منصوب لها، ويستهدف شقين، الأول إثارة الخلافات بينها وبين الفصائل الأخرى تمهيداً لعزلها على الأرض، والثاني إعطاء ذريعة تسمح باستهدافها وقصفها بشكل أكثر كثافة.

وكانت «جبهة النصرة» الفصيل الوحيد الذي صدر عنه كلام مختلف بخصوص المنطقة العازلة التركية. فهي لا تجيز التحالف مع تركيا شرعاً ولا تقديم أي مساعدة لها، لأن المشروع لا يخدم الساحة السورية بل الأمن القومي التركي. ولكنها لم تذهب بعيداً ولم تكفر الفصائل التي هرولت لتقديم عروض خدماتها للسلطات التركية، واكتفت بنصحها بأن تتخذ قرارها بناءً على نظرة استراتيجية تخدم الساحة الشامية من دون أن تتأثر بأي جهة أو نظرة خارجية تحرف الصراع عن أولوياته، وذلك بحسب بيان صدر أمس الأول تحت عنوان «حول الأحداث الأخيرة في ريف حلب الشمالي (التدخل التركي)». وبناءً على هذا الرأي قررت «جبهة النصرة» سحب عناصرها من نقاط الرباط ضد الخوارج (جماعة «داعش») في ريف حلب الشمالي فقط، مبقية رباطها ضدهم في مناطق أخرى غير مشمولة بالمشروع التركي مثل بادية حماه والقلمون.

هذا الموقف تسبب في انكفاء «جبهة النصرة» عن مناطق ذات أهمية استراتيجية، ولا سيما تلك التي في مدينة إعزاز الحدودية، وهو ما استفاد منه أحد أبرز التشكيلات «الإخوانية» في المنطقة، أي «الجبهة الشامية»، حيث كان لافتاً أن «جبهة النصرة» لم تحاول حتى تغطية انكفائها بورقة التوت الوحيدة التي كانت متاحة أمامها، وهي الانسحاب لمصلحة «أحرار الشام» المقربة منها، بل أخلت مقارّها ليشغلها سريعاً مسلحو «الإخوان» الذين طالما ربطت بينهم علاقة غير ودية.

هذا التقدم «الإخواني» في شمال حلب، يشير من دون شك إلى أن «الإخوان»، رغم عدم بروز دورهم عسكرياً في كثير من محطات الأزمة السورية، إلا أنهم يبقون الخيار المفضل لدى سلطات أنقرة للاعتماد عليه في بعض المهمات الحساسة، من قبيل إقامة «منطقة عازلة» في شمال حلب. وما يلفت الانتباه أن أنقرة لم تحاول الاستعانة بفصيل «أحرار الشام»، الذي ما يزال يتمتع بعلاقات واسعة معها، وقد يكون مردّ ذلك أن أنقرة التي تدرك النظرة السلبية لبعض الدول إلى «أحرار الشام» لا تريد أن يشوب مشروعها أي شائبة تهدد بإفشاله أو رفضه.

ولكن يبدو أن هذا الانتعاش «الإخواني» لا يقتصر على جبهة ريف حلب الشمالي، بل وصلت نسائمه إلى ربوع الغوطة الشرقية في محيط دمشق، وهو ما يطرح تساؤلاً مشروعاً حول المدى الذي يمكن أن يصل إليه، وهل ثمة جبهات أخرى مرشحة لاستقباله، وعما إذا كان هذا الانتعاش يعكس توافقاً إقليمياً على تبنّي «الإخوان» كأداة تناسب ظروف المرحلة ومتطلباتها، أم على العكس من ذلك تكمن وراءه تجاذبات إقليمية بين أكثر من دولة أو محور؟

وبرز في الغوطة الشرقية، خلال الأسابيع الماضية، تراجع هيمنة قائد «جيش الإسلام» زهران علوش، المحسوب على تيار «السلفية العلمية»، وتراخي قبضته الحديدية التي كان يفرضها بصرامة، ويسعى من خلالها لاحتكار السيطرة على مجمل الغوطة الشرقية بعد التخلص من خصومه واحداً إثر آخر.

وقد تجلّى هذا التراجع بعدة مظاهر، أهمها التظاهرات الضخمة التي خرجت في عدة مناطق من الغوطة تطالب بإسقاط زهران علوش وتعيين قائد جديد مكانه في «القيادة الموحدة»، نتيجة تحميله مسؤولية الفقر والغلاء اللذين يضربان أطنابهما في الغوطة. كما تجلّى في ما نشرته «السفير»، وأكده علوش بنفسه أثناء اجتماع قبل أيام ضمه مع وجهاء المنطقة، بأن قيادتي «فيلق الرحمن» و «الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام» قد قررا تجميد مشاركتهما في «القيادة الموحدة».

وقد تزامن ذلك مع خلافات حادّة بين هذه الفصائل على الأنفاق التي تربط بين مدينة حرستا ومدينة برزة، وتعتبر السبيل الوحيد لدخول الأسلحة والإمدادات والأغذية إلى داخل الغوطة. وكان لافتاً أن «الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام»، ذا الميول «الإخوانية»، ورغم أن قائده أبو محمد الفاتح يشغل منصب نائب زهران علوش، كان هو من يقود دفة الاحتجاجات ضد الأخير. فمن جهة، فإن «لواء فجر الأمة» بقيادة أبو خالد الدقر الذي يسعى للهيمنة على أنفاق حرستا وشكّل رأس الحربة في الخلاف الأخير مع «جيش الإسلام» يتبع إلى «أجناد الشام»، ومن جهة ثانية، كان للشيخ أبو سليمان طفور المرجع الديني لـ «أجناد الشام» و «الإخواني» المعروف، دور بارز في التحريض على زهران علوش والمطالبة بإسقاطه، وقد ثبت ذلك بعد تسريب تسجيل لإحدى خطب الجمعة حرّض فيها طفور بوضوح على علوش، متهماً إياه بالظلم والدموية.

وبما أن هذا التطور على صعيد الصراع على الغوطة جاء بعد زيارة علوش إلى تركيا ومن ثم إلى السعودية، فقد تضاربت التفسيرات حول مدلولاته. هل يعني ذلك أن زيارته إلى تركيا قد أُفشلت، وثمة من لم يرض به كبديل محتمل من النظام السوري كما رشحت معلومات عن الزيارة آنذاك، أم أن التقارب التركي – السعودي الأخير كان محصوراً بحدود مدينة إدلب فقط ولم يشمل مناطق أخرى مثل ريف دمشق على سبيل المثال؟

أيّاً يكن الأمر، فإن الانتعاش «الإخواني» يمثل ظاهرة لافتة في هذه المرحلة، بغض النظر عن أسبابه والآفاق التي يمكن أن يصل إليها، ولكن في المقابل فإنه سيشكل عاملاً جديداً لإضفاء المزيد من التعقيد على الساحة السورية. لا سيما أن بعض الفصائل، التي وجدت نفسها مضطرة إلى الانحناء أمام «عاصفة الحزم التركية» كما يطلق بعض المتحمسين على التدخل التركي، وعلى رأس هذه الفصائل «جبهة النصرة»، لن يكون بإمكانها الاستمرار في الانحناء طويلاً، سواء بسبب الخشية من أن تكون الضحية الثانية لهذا التمدد «الإخواني» بعد «داعش» أو بسبب الضغوط الداخلية من قبل التيار الرافض أصلاً للتدخل التركي.

كما أن بعض الفصائل الأخرى بدأت تلعب لعبة جديدة تخالف كل ثوابتها السابقة، وتتمثل في العمل على تقوية «جبهة النصرة» لمواجهة المد «الإخواني»، ومن هذا القبيل قبول زهران علوش بأن تكون «جبهة النصرة»، الفصيل الوحيد الذي لم يشارك في «القيادة الموحدة»، صاحبة الصوت المرجح في الحكم بقضية الخلاف على أنفاق حرستا بينه وبين شركائه الألداء، وذلك بعدما كانت مساعيه تنصبّ في المرحلة السابقة على تقليص نفوذها والعمل على التخلص منها بأقرب فرصة سانحة.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى