إدلب إلى الواجهة مجدّداً: هل يتكرّر سيناريو «M5»؟
لم تكَد تظهر بوادر قرب إقفال ملفّ المنطقة الجنوبية مع بدء تطبيق الاتّفاق المتعلّق بمدينة درعا، حتّى توجّهت الأنظار إلى إدلب، التي عاشت خلال الأشهر الماضية حالة سكون عسكري وميداني، مقرون بنشاط سياسي على المستويَين الإقليمي والدولي.
ونفّذت طائرات عسكرية سلسلة استهدافات طالت مواقع سيطرة الفصائل المسلّحة في منطقة جبل الزاوية، بالتزامن مع خروقات شهدتها هذه المنطقة من قِبَل «هيئة تحرير الشام»، حيث أعلن «مركز المصالحة الروسي» في سوريا أن «الهيئة» نفّذت حتى يوم السبت الماضي 29 خرقاً في مواقع «خفض التصعيد».
واللافت في التطوّرات الجديدة، التحرّك العسكري السوري الجدّي على تخوم طريق «M4» الذي يصل حلب باللاذقية، والذي تعهّدت تركيا بسحب الفصائل المسلّحة من جيب صغير يطلّ عليه من الجنوب، بعد سيطرة الجيش السوري على معظمه، وذلك لإعادة فتحه وفق «اتفاق سوتشي» 2018، والبروتوكول الملحق به في شهر آذار من العام الماضي بين روسيا وتركيا، وهو ما لم يتمّ على أرض الواقع.
وخلال لقاء الرئيسَين بشار الأسد وفلاديمير بوتين أمس، ذكر الأخير، بشكل صريح، أن «المشكلة الرئيسة تكمن في أن القوات الأجنبية موجودة في مناطق معيّنة من البلاد من دون قرار من الأمم المتحدة ومن دون إذن منكم (من سوريا)، وهو ما يمنعكم من بذل أقصى الجهود لتعزيز وحدة البلاد»، الأمر الذي يشير بشكل مباشر إلى الوجود الأميركي شرق البلاد، والتركي في الشمال والشمال الغربي. إضافة إلى ذلك، لم تفِ تركيا أيضاً بتعهّداتها وفق الاتفاقات المبرمة مع روسيا في شهرَي آذار وحزيران الماضيين، والتي تقضي بفتح معابر إنسانية، وإنشاء «منطقة خالية من الوجود العسكري» في إدلب، تمهيداً لفتح طريق «M4»، ما دفع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، إلى اتّهام أنقرة بشكل علني بعدم الوفاء بالتزاماتها، سواءً لناحية إنشاء المنطقة المذكورة أو لناحية فصل المسلحين عن «هيئة تحرير الشام» المصنّفة تنظيماً إرهابياً، ليردّ عليه وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، بأن موسكو هي التي لم تفِ بتعهّداتها، الأمر الذي أعاد الخلاف الروسي – التركي حول شمال سوريا إلى السطح مرّة أخرى.
وتعيد هذه الصدامات السياسية إلى الأذهان المعارك التي خاضها الجيش السوري في شهر شباط من العام الماضي، حيث واجه بدعم روسي قوات الجيش التركي ومسلّحي «هيئة تحرير الشام» وتمكّن من السيطرة على طريق حلب – دمشق (M5) الذي ماطلت تركيا أيضاً في فتحه، وحاولت السيطرة عليه، لتتوقّف المعارك حينها بزيارة الرئيس التركي إلى موسكو، وعقْد اجتماع مطوّل مع الرئيس الروسي انتهى ببروتوكول ملحق بـ«اتفاقية سوتشي».
ومنذ توقيع الاتفاقية في شهر آذار من العام الماضي، حصّنت تركيا مواقعها في إدلب، وتمكّنت من تطويع «هيئة تحرير الشام» وتشبيك علاقتها بها بشكل كبير، حيث أمّنت لها ظروفاً مناسبة لإنهاء وجود عدد من الفصائل المسلحة الأخرى في مناطق سيطرتها، الأمر الذي مهّد الأرض لتوغّل تركي آمن في المناطق الحدودية مع سوريا، والتي تسعى أنقرة إلى استمرار بسط سيطرتها عليها لإقامة مشروعات سكنية تخلق حزاماً محاذياً للشريط الحدودي يسهل قضمه وضمّه إلى الأراضي التركية، خصوصاً أن هذه التحرّكات جاءت بالتزامن مع حملة «تلميع» لصورة أبو محمد الجولاني وجماعته («هيئة تحرير الشام») وتسويقها على أنها فصيل معتدل.
وتخشى أنقرة من أن تضرب الممرّات الإنسانية أو إعادة افتتاح طريق حلب – اللاذقية مشاريعها، حيث توفّر هذه الممرّات نقاط ربط بين إدلب وبقية المناطق السورية، كما تسحب من يدها سلاح المساعدات الذي تحاول احتكاره، إضافة إلى أنها تنهي تذرّعها الدائم بأنها تقلق من موجات جديدة من اللاجئين في حال وقوع أيّ عمليات عسكرية، الأمر الذي يفسّر إصرارها على تجميد الأوضاع الميدانية لأطول فترة ممكنة. وخلال الشهرين الماضيين، كثّفت أنقرة من عمليات نقل لاجئين سوريين إلى الداخل السوري، كما بعثت برسائل إلى معظم السوريين الذي يعيشون في المدن التركية تُخطرهم فيها ببدء عمليات التسجيل للعودة إلى سوريا، عن طريق تقديم تسهيلات سكنية لهم، وهو ما يبيّن سبب محاولاتها عرقلة التحرّكات الروسية لفتح معابر إنسانية تربط إدلب بمناطق سيطرة الحكومة، وإصرارها على إدخال المساعدات الإنسانية عبر معبر باب الهوى فقط، بما يضمن لها استمرار سيطرتها على إدلب، وتحصين مشاريعها في المنطقة.
وتزامنت تحرّكات الجيش السوري على تخوم جبل الزاوية في إدلب مع إعلان فصائل مسلحة سورية تابعة لتركيا تحرّكها على المحور نفسه أيضاً، الأمر الذي يعني استمرار تعنّت أنقرة، ومحاولتها فرض خريطة السيطرة الميدانية الحالية كـ«أمر واقع»، وهو ما ترفضه دمشق وموسكو، ما يعني بالمحصّلة أن عملية عسكرية قادمة لا محالة لفتح طريق حلب – اللاذقية الذي طال إغلاقه، وإزالة العوائق أمام الطرق التي تصل إدلب ببقية المناطق السورية، تمهيداً لخطوات لاحقة تنهي وجود «هيئة تحرير الشام»، وتعيد إدلب مرّة أخرى إلى السيادة السورية.