إدلب لا تحتاج لمُنجّم.. إردوغان لن يسلّمها للأسد
قبل ذلك وبعده كتبت العديد من المقالات حول الوضع في إدلب وتحدثت بالتفصيل عن حسابات ومخططات ومشاريع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان هناك. المقالان الأخيران كانا مخصّصان لهذا الموضوع، فقد عنونت الأول بتاريخ 24 شباط/ فبراير بـ”تركيا لن تنسحب من سوريا.. إلا إذا”، وفي مقالي الأخير بتاريخ 27 من الشهر نفسه توقعت مسبّقاً ما جرى في إدلب خلال الأيام الثلاثة الماضية. تحدثت عن “اتفاقية أضنة” وقلت إنها ستنتقل من “محاربة الاٍرهاب إلى حرب الدول”، الأمر الذي نعيشه الآن فعلا .
فبعد أن لقي 34 من العساكر الأتراك (المجموع في إدلب 53) مصرعهم في هجوم للطائرات السورية، وهو ما أدى إلى توتر خطير في العلاقات التركية- الروسية بانعكاسات ذلك على الأرض في سوريا، بذلت أنقرة مساعي مكثفة لإقناع واشنطن والعواصم الغربية بضرورة دعمها في إدلب في مواجهة الخطر الروسي السوري الإيراني، وهو ما رفضته العواصم المذكورة، ما دفع إردوغان إلى تحريض اللاجئين، السوريين منهم وغير السوريين، للزحف نحو الحدود التركية مع اليونان وبلغاريا، براً وبحراً، وهدّد بإرسال مئات الآلاف (في هذا الشتاء القارس) منهم، كردٍّ على مواقف الدول الغربية وإجبارها على مساعدته في مشروعه لإقامة منطقة آمنة في إدلب مع حظر جوي في المنطقة، وربما في الشمال السوري بأكمله.
فيما لم تستبعد المعلومات أن يقوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي هاتفه إردوغان، باتخاذ موقف عملي للتضامن مع أنقرة في إدلب، مقابل “شروط مجحفة” قد يوافق عليها إردوغان إذا اقتنع بأنها ستساعده على التصدي “لابتزازات” الرئيس الروسي، وبالتالي لمعالجة الأزمة المالية التي تزداد خطورة يوماً بعد يوم بسبب الحرب التركية في سوريا.
وجاءت المفاجأة عندما تحدثت المعلومات عن تراجع فلاديمير بوتين عن موقفه “الصامد” بعد تهديدات إردوغان له (يا ترى بماذا هدّده؟)، فوافق على “عمليات محدودة” للقوات التركية داخل الأجواء السورية بواسطة الطائرات المسيرة التي يقوم بتصنيعها صهره سلجوق بايراقدار.
أرسل الجيش التركي العديد من هذه الطائرات للرصد وقصف الكثير من مواقع الجيش السوري على جبهتي حلب وإدلب، حيث قُتل الكثير من الضباط والعساكر السوريين ومعهم العديد من عناصر حزب الله والحرس الثوري الإيراني، وقدّر إردوغان عددهم بأكثر من ألفي عسكري.
ووزّعت هيئة الأركان التركية صور ومشاهد المواقع السورية المستهدفة ومنها مهابط المطارات والثكنات ومستودعات أسلحة، بما فيها الكيميائية على حد قول إردوغان، وسط المعلومات التي تتوقع استمرار عمليات القصف هذه حتى القمة الرباعية في 5 آذار/مارس.
اعتبر البعض “الضوء الأخضر” الروسي بداية العودة للحوار “الإيجابي” بين موسكو وأنقرة من دون أن يمنع ذلك إردوغان من مهاجمة بوتين قائلاً: “ليكن لك ما تريد من قواعد في سوريا ولكن أنا لن أخرج من هناك إلا إذا طلب مني الشعب السوري ذلك”.
وتتحدث المعلومات عن “تهدئة مبدئية” بعد أن اكتفى إردوغان بالذي حصل عليه من بوتين، ليقول للشعب التركي إنه انتقم لشهدائه في إدلب. كما أنه نجح في إقناع أو أجبار بوتين على لقائه في القمة الرباعية مع ميركل وماكرون في إسطنبول، بعد أن تهرّب بوتين من هذا اللقاء يوم الإعلان عن مقتل العساكر الأتراك.
ومن المتوقع وفق المعلومات العودة إلى اتفاق سوتشي وتسيير دوريات تركية وروسية في المناطق التي يطالب إردوغان بانسحاب الجيش السوري منها، وهي القريبة من نقاط المراقبة التركية في المنطقة، مؤكداً ضرورة إعلان إدلب منطقة آمنة.
هذا الاحتمال في حال وافقت عليه دمشق وتحقق، فسوف يعلن إردوغان نفسه منتصراً ليتنفس الصعداء في مواجهة أعدائه في الداخل بعد أن حمّلوه مسؤولية مقتل الجنود الأتراك وتوريط تركيا في مزيد من المشاكل والمخاطر داخلياً وخارجياً.
فقد اتهم الأميرال المتقاعد توركار أرتورك إردوغان “بالعمل لاحتلال الشمال السوري وإقامة كيان انفصالي أو حكم ذاتي إخواني رجعي في المنطقة”. وقال: “لهذا السبب إردوغان يتضامن مع المسلحين الإسلاميين في إدلب”.
وأشار أرتورك إلى “عدم التزام إردوغان بأي من تعهداته في سوتشي قبل أكثر من 17 شهراً”. وأضاف “عندما وقع إردوغان على الاتفاق كان إرهابيو جبهة النصرة يسيطرون على 40٪ من إدلب وهم الآن يسيطرون على 90٪ منها، وذلك بفضل الدعم التركي من نقاط المراقبة التركية في المنطقة”. وتابع “إذا استمر إردوغان في سياساته ضد سوريا فإن المخاطر المستقبلية ستكون جسيمة جداً، وستكون تركيا في وضع خطير أكثر بكثير مما نعاني منه الآن في إدلب، ولأن الجيش السوري يقاتل من أجل وطنه ضد الإرهابيين ونحن نقوم بحماية الإرهابيين”.
لم يكن الأميرال ارتورك الوحيد الذي وجه انتقادات عنيفة للرئيس إردوغان في إدلب بل كان هناك عشرات الشخصيات السياسية والعسكرية والدبلوماسية والاجتماعية (وقال عنهم إردوغان إنهم خونة)، والتي ناشدت إردوغان الانسحاب فوراً من إدلب، والكف عن تقديم أنواع الدعم كافة للإرهابيين في المنطقة.
هذا الأمر استبعده آخرون موالون للرئيس إردوغان ورفعوا شعارات قومية عنصرية حماسية لشحن شعور الشارع الشعبي، الذي يبدو أنه لم يقتنع بمبررات وحجج إردوغان في إدلب، بعد أن رفض دعوة حزب الشعب الجمهوري إلى عقد جلسة طارئة وسرية للبرلمان من أجل مناقشة الوضع في إدلب، كما رفض ووزير الدفاع خلوصي آكار تلقّي اتصال هاتفي من كليجدار أوغلو.
وأثار موقف إردوغان هذا وتهربه من إعلان الحداد الوطني ردود فعل شعبية واسعة، مما اضطره لدعوة البرلمان للاجتماع يوم الثلاثاء المقبل من أجل إدلب، التي بات واضحاً أنها ستكون قريباً محوراً لمجمل الحسابات الإقليمية والدولية.
فإذا عاد بوتين إلى “حواره التقليدي” مع إردوغان على حساب المكاسب التي حققها الجيش السوري، فإن أنقرة ستستغل هذا الوضع الجديد بدعم من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وأميركا، وتقوم بتعزيز تواجدها العسكري في المنطقة استعداداً لملفات جديدة من الصراع، ليس فقط في إدلب وجوارها بل في المنطقة عموماً.
فقد اعتبر إردوغان السبت أن بقاء قواته في الشمال السوري بأكمله جزء من الأمن القومي لتركيا التي تتعاون مع عشرات الآلاف من مسلحي مختلف الفصائل المسلحة ومنها “جبهة النصرة”.
ويسعى إردوغان إلى رفع معنويات هؤلاء من خلال مواقفه السياسية والعسكرية ومن خلال استهداف المواقع السورية ليقول لهم إنه الأقوى بعد أن تحطمت معنوياتهم بسبب انتصارات الجيش السوري، كما ليقول إنه قادر على الانتقام من هذا الجيش وإجبار موسكو على تقديم التنازلات، التي إن تكررت أو استمرت فلا مفر حينها من المواجهة المباشرة بين القوات السورية والتركية على أن تبقى روسيا على الحياد.
وقال إردوغان في حديثه (السبت) إنه طلب ذلك من بوتين، من دون أن يعرف أحد فيما إذا كان الضوء الأخضر الروسي للطائرات المسيرة التركية بداية موافقة روسية على ذلك، أم أن سوريا ستبقى بين المطرقة التركية والسندان الروسي.
سيرى الجميع خلال الأيام القليلة المقبلة كم هو مصهور بالفولاذ المقاوم، ليس للمطرقة التركية فقط بل الإسرائيلية أيضاً.
الميادين نت