إدلب ما بعد «الدستورية»: أنقرة والجولاني نحو «طلاق بالتراضي»؟
يعيد تشكيل «اللجنة الدستورية» تسليط الضوء على إدلب، ومآلات الأمور فيها في المرحلة المقبلة. وتبدو حلحلة عقد التشكيل، بناءً على توافقات دولية وإقليمية، محطة على طريق «الساعة الصفر» لتنفيذ توافقات «أستانا» و«سوتشي».
وتراجعت فرص تحوّل «هيئة تحرير الشام» إلى شريك في تنفيذ تلك التوافقات، بسبب جملة تفصيلات بالغة التعقيد، لتتزايد، في المقابل، احتمالات اضطرار أنقرة إلى شن عمليات (صورية على الأرجح) ضد «فتية الجولاني».
مرة أخرى، يجد زعيم «جبهة النصرة/ هيئة تحرير الشام»، أبو محمد الجولاني، نفسه محشوراً في زاوية صعبة. ومع أن «براغماتية» الزعيم المتطرف سبق أن أخرجته، والكيان الذي يتزعمه، من مآزق عدة مشابهة، فإن المعطيات هذه المرة تبدو مختلفة عما سبق، بما يجعل المهمة شبه مستحيلة.
ومنذ إعلان موسكو، نهاية شهر آب/ أغسطس الماضي، وقف إطلاق النار في «منطقة خفض التصعيد»، تزايدت الضغوط التركية على «تحرير الشام»، لتصل حدّاً غير مسبوق في الأسبوع الأخير من شهر أيلول/ سبتمبر المنصرم. وحتى الآن، لا تبدو الخيارات كثيرة أمام «الهيئة»: فإما المبادرة إلى حلّ نفسها، أو الدخول في معركة مصيرية تقود إلى التفكيك المنشود. ولا تنفصل الأزمة الراهنة عن سابقاتها، بل تأتي بوصفها نتيجة متوقّعة في ضوء أسلوب الجولاني القائم على المماطلة والتسويفات وترحيل المشكلات، أملاً بتغيّر ظروف اللعبة.
وتماشى أسلوب الجولاني هذا مع أسلوب تركي مماثل حيال التعهدات التي قطعتها أنقرة على نفسها بموجب توافقاتها مع موسكو، ما أفلح في إرجاء الأزمة حتى هذه الأيام. اليوم، يبدو أن الظروف قد تغيرت، وأن المماطلة لم تعد خياراً تركياً ناجعاً. كما يبدو جليّاً أن الضغوط المتزايدة على أنقرة خفّضت (والأرجح أنها أطاحت) حظوظ خيار «إعادة تأهيل هيئة تحرير الشام»، عبر دمجها بكيان آخر.
وتؤكد معلومات متقاطعة أن الجولاني وُضع أخيراً أمام خيارين لا ثالث لهما: إعلان حلّ «الهيئة»، أو الدخول في معركة مع «الجيش الوطني» المحسوب على أنقرة. وخلال الأيام القليلة الماضية، تداولت مصادر «جهادية» عدة ما مفاده أن «الهيئة» أبدت استعدادها لتنفيذ مُخرجات «أستانا» و«سوتشي». وأكد القيادي السابق في «النصرة»، صالح الحموي (الشهير باسم «أُس الصراع في الشام»)، أن «الهيئة» عرضت تقديم تنازلات كثيرة، منها «حماية الطرق الدولية، (تشكيل) حكومة مشتركة مع الحكومة المؤقتة، تغيير اسم الهيئة، ودخول بعض فصائل الجيش الوطني إلى إدلب». ويتطابق هذا الكلام مع ما نشرته «الأخبار» قبل شهر من الآن
وتُجمع المصادر على أن تنازلات «الهيئة» جاءت متأخرة، وأن «المطلوب اليوم هو إعلان حلّها بشكل كامل»، وفقاً لما تؤكده لـ«الأخبار» مصادر مرتبطة بـ«الجيش الوطني». وتستمرّ الاستعدادات داخل صفوف «الوطني»، في انتظار قرار تركي، قد يصدر فعلاً بشنّ عملية عسكرية ضدّ «الهيئة». ويحظى ريف حلب الغربي بأهمية خاصة في هذا السياق، نظراً إلى كونه منطلقاً مرجَّحاً لأيّ عملية تشنّها «الفصائل» ضد «الهيئة».
وبدأت الأخيرة بالفعل القيام ببعض الإجراءات الاحترازية على خطوط التماس تلك. وقبل أيام، نقلت إذاعة «روزنة» المعارضة عن «مصادر خاصة» قولها إن «أنقرة أبلغت الفصائل بالتجهيز لعملية مرتقبة ضد هيئة تحرير الشام والفصائل الراديكالية الأخرى في إدلب»، وإن «تحرير الشام أبدت ليونة كبيرة في التعامل مع متطلبات أنقرة، والقبول بتنفيذها».
ولم يطل صمت «الهيئة» في ظلّ تزايد الضخ الإعلامي حول العملية المرتقبة، إذ سارع «مكتب العلاقات الإعلامية» التابع لها إلى إصدار بيان وضع الأنباء المتداولة في خانة «حرب الشائعات». كما حذّر «العقلاء والحكماء» من «جرّ المناطق المحررة إلى حرب داخلية وفوضى أمنية واسعة وهدم للمنشآت والمؤسسات الثورية». وبدا لافتاً أن البيان وضع استهداف «الهيئة» في خانة استهداف «غرفة عمليات وحرّض المؤمنين»، في بحث واضح عن دعم شركائها في «الغرفة». ويكتسب هذا التفصيل أهمية إضافية في ضوء هوية أولئك «الشركاء»، وجميعهم من الجماعات «الجهادية». وتتشكّل «الغرفة» من تنظيم «حرّاس الدين»، و«جبهة أنصار الدين»، و«أنصار التوحيد»، و«جماعة أنصار الإسلام».
وتبدو عودة «الهيئة» إلى العباءة «الجهادية» بشكل علني خياراً مطروحاً على طاولة الجولاني، لمواجهة معركة قد يجد نفسه مجبراً على خوضها. وتفيد معلومات «جهادية» بأن «الجولاني لوّح بالفعل بهذا الخيار». ويؤكد لـ«الأخبار» مصدر منشق عن «النصرة» أن «الجولاني قال لعدد من الوسطاء إن الهيئة ضحّت وغامرت كثيراً، لكن هذا لا يعني أنها في موقف ضعف، وإن الهيئة ما زالت جماعة مجاهدة ولديها حلفاء».
ويتناقض هذا الكلام مع الحال التي وصلت إليها علاقة الجولاني تحديداً مع أبرز التنظيمات «الجهادية». وتسود في أوساط «حرّاس الدين» نظرية مفادها أن «الجولاني هو العائق الأساسي الذي يمنع الوثوق بالهيئة، ودفع التحالف معها إلى الأمام». وشهدت العلاقة بين «الحراس» و«الهيئة» تقلّبات كثيرة، ظَلَّ التوتر حاضراً في كواليسها حتى في فترات «العسل».
ويجد «حرّاس الدين» صعوبة في خوض معركة وجودية ضدّ «الهيئة» بسبب ميل موازين القوى إلى غير مصلحته، علاوة على الرغبة في الحفاظ على صورة إيجابية لدى «المهاجرين» (وهم «الجهاديون» غير السوريين) من عناصر «الهيئة».
ولا يبدو مستبعداً، إذا ما تغيّرت الظروف بفعل دخول «الهيئة» في معارك ضد «الجيش الوطني»، أن ينتهز «حراس الدين» الفرصة بالتعاون مع «أنصار الدين» للانفراد بالسيطرة على بعض المناطق الاستراتيجية التي تحضر «الهيئة» في محيطها، ولا سيما في مناطق جيل الزاوية ومحيطه.
ووسط هذه «المعمعة»، يدور حديث في بعض كواليس إدلب، عن «حل وسط» قد تتوافق عليه «الهيئة» مع أنقرة في صورة غير معلنة. ويقوم هذا الحلّ على إطلاق أنقرة عمليات صورية، تستحضر سيناريو عملياتها ضد تنظيم «داعش» في ريف حلب الشمالي الشرقي (عملية «درع الفرات»).
وسيكون هذا السيناريو كفيلاً بتسلّم «الجيش الوطني» زمام السيطرة على جانبَي الطريق الدولي «M5» (حلب ــــ دمشق) في جزئه الشمالي (حلب ــــ سراقب)، في مقابل انسحاب «الهيئة»، وحصر رقعة سيطرتها بمحيط مدينة إدلب القريب، وكامل ريفها الغربي، والجنوبي الغربي، والشمالي الغربي، وجزء من ريفها الشمالي. في الوقت نفسه، يظلّ احتمال شنّ الجيش السوري وحلفائه عملية جديدة ضد «الهيئة» في ريف إدلب الجنوبي قائماً، بهدف السيطرة على الطريق الدولي، وصولاً إلى مدينة معرّة النعمان، وجزء من ريفها الشمالي.
صحيفة الاخبار اللبنانية