إدوار الخراط.. رحيل شاعر الرواية الشيخ المغامر..
ربما لا يوجد مبدع مصري لم يعرف هذا العنوان «45 شارع أحمد حشمت» فى الحي الأرستقراطي الهادي «الزمالك». هنا توجد شقة إدوار الخراط، الذي غيّبه الموت أمس بعد رحلة قصيرة مع المرض، وطويلة من النسيان. كانت شقة الخراط معبراً، مرّ عليها أدباء الأجيال الجديدة جميعهم بلا استثناء، دخلوا في مناقشات صاخبة، ربما استعاروا كتباً من المكتبة التى أحاطت بالجدران. ولم تكن هذه هي كل المكتبة فالصالون أيضاً مكتبة كبيرة، جدران غرفة النوم مكتبة، عندما كنت تسأله عن أحد كتبه يغادر حجرة المكتب إلى غرفة النوم دائماً ويعود بالكتاب الذي تسأل عنه. كما لا يمكن أن تسأل الخراط أيضاً عن أديب مصري راحل أو لا يزال حياً إلا سيتجه إلى غرفة صغيرة، ربما كانت يوماً ما «بلكونة» أغلقها وضمها إلى مكتبه ليعطيه اتساعاً ما، ويستخرج برفق وحنو أعمالاً له، أعمالاً يكون صاحبها قد نسيها تماماً، ولا يعرف عنها شيئاً. أصدقاء كثيرون فقدوا دواوينهم الأولى المخطوطة لأسباب ما، وجدوها عند الخراط، وآخرون اكتشفوا عندما كتب عنهم دراسات نقدية باستشهاده بأعمالهم الأولى التى نسوها، وفاجأهم باحتفاظه بها. لكل أديب لدى الخراط «ملف». في إحدى زياراتي له قبل سنوات استخرج برفق الملف الخاص بالروائي الراحل عبد الحكيم قاسم، يضم الرسائل المتبادلة بينهما، بطاقات بريدية، مخطوطات، ودراسات نقدية.. يبتسم عندما أسأله: من أين يأتي بالوقت كي ينظم ذلك الأرشيف الضخم ويحرص عليه بدأب وصبر شديدين؟ مجهود ربما لا تقوم به مؤسسات كاملة، يفعله منفرداً بدون مساعدة من أحد. كان إدوار الخراط منذ بداياته منذوراً للفن، الفن وحده.
من الصعب بالتأكيد اختصار صاحب «رامة والتنين» فى جمل قصيرة. هو الشيخ المغامر الذي لم يترك فناً لم يدلِ فيه بدلوه، من قصة ورواية إلى الشعر والنقد والترجمة، وصولاً إلى ممارسة الفن التشكيلي عبر إقامة العديد من المعارض التشكيلية، ليس هذا فحسب بل هو راعٍ لجيل من المبدعين، كان من أوائل من تبنوا حركة السبعينيات الشعرية، ثم الكتابة القصصية الجديدة التي برزت فى الثمانينيات والتسعينيات التي أطلق عليها مرات «الحساسية الجديدة».. ومرات أخرى «الكتابة عبر النوعية»… وهما عنوانا كتابين شهيرين له. فى الأربعينيات أصدر مجموعته الأولى «حيطان عالية» أو بالأحرى مغامراته الإبداعية الأولى فكتابه صاحب «الزمن الآخر» مغامرة لغوية جريئة، تغوص فى الواقع بقدر ما تبتعد عنه،.. حتى أنه عندما أصدر روايته «تباريح الوقائع والجنون» اعتبرها البعض «انقلاباً» على عقيدته الفنية، إذا كيف لصاحب النزعات السريالية والشطحات الصوفية والتهويمات أن يكتب رواية بهذه الحدة والمباشرة. كان الخراط يرى أنه لم ينفصل قط عن الواقع في أعماله السابقة، ولكنه يفسر المباشرة الحادة فى روايته (التباريح) بأن الواقع الذي نعيشه أصبح لا يحتمل رهافة الإضمار والاستتار وحيل الفن الماكرة. ولم تكن المباشرة من وجهه نظره «استسلاماً» للواقع، كان يرى أن «الاستسلام هو الصمت، مجرد الكتابة ثورة ولكن ما دام هناك من يكتب فستظل هناك قضية وهناك رفض للاستسلام، وهذا هو الفن فى صميمه والأسئلة الكبرى في الفن أسئلة لا إجابة لها أبداً ولكنها قائمة لا تكف عن سؤالها». بهذا المعنى يرى الخراط أن الجمهور «أسطورة» لأن الفن لم يكن في يوم من الأيام، جماهيرياً، وليس مقصوداً به أن يكون جماهيرياً، في هذه خرافة أو وهم من الأوهام الشائعة»… الفن بالنسبة إليه إذاً «علاقة حميمة بين المبدع وقارئه، لا أقول علاقة ذاتية ولا أقول علاقة شخصية، إنها علاقة حميمة وحسب». وهكذا غامر الخراط، لم تكن أعماله الإبداعية مجرد روايات ذات بداية ووسط ونهاية، كان حريصاً أن يسمي هذه الأعمال بأسماء أخرى، «رواية شعرية»…»تنويعات روائية».. (نزوات) و(متتاليات)؟..لم يكن يريد فقط أن يضع أعماله التجريبية «على قدم المساواة مع الرواية البلزاكية».. ولكنه أيضاً أراد كسر الجمود حول تصور الأجناس الأدبية. ومع هذه المغامرة الدائمة… إدوار الخراط سلاماً أيها المغامر الدائم.
صحيفة السفير اللبنانية