إرث لبنان من العنف السياسي: الانتهاكات في ظل النزاعات المستمرة (بسام القنطار)

 

بسام القنطار

هل ينتهي النزاع فعلاً عندما يصمت دويّ الأسلحة؟ وعندما يحصل ذلك، كيف نستجمع قوانا ونمضي؟ سؤالان أساسيان طرحهما تقرير عن «إرث لبنان من العنف السياسي»، أُطلق أمس في جامعة القديس يوسف في بيروت، وتضمن مسحاً للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني ما بين عامَي 1975 و2008»

«إرث لبنان من العنف السياسي بين العامين ١٩٧٥ – ٢٠٠٨». الموضوع إشكالي بمداخله ومخارجه، وبفاعليه المحليين على اختلافهم الطائفي والسياسي والاجتماعي، وبتفاعلهم الملتبس مع اللاعبين الإقليميين والدوليين. لكن الأهم أن هذه الحقبة تبقى مفتوحة على دراسة القراءات المختلفة للحدث، وبمعنى آخر، مفتوحة على الاستعمالات المتعددة لهذا الماضي في الحاضر، وخصوصاً أن العنف السياسي حدث مستمر في لبنان، منذ تشكله بإرادة استعمارية عام ١٩٢٠، وارثاً لتاريخ طويل من النزاعات الطائفية منذ ما قبل نظام القائمقاميتين، مروراً بأحداث عام ١٨٦٠ وما تلاها.
قدمت هذه الحقبة المفصلية من تاريخ لبنان المعاصر على شكل تقرير أطلقه، أمس، المركز الدولي للعدالة الانتقالية، وجامعة القديس يوسف، ومركز الدراسات للعالم العربي المعاصر، متضمناً مسحاً للانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني ما بين عامَي 1975 و 2008.
يجمع هذا التقرير، المكون من 139 صفحة، معلومات عن مئات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وقعت في لبنان بين العامين 1975 و2008، من مذابح جماعية وحالات اختفاء قسري واغتيالات ونزوح قسري وقصف على مناطق مدنية، وهو يسلِّط الضوء على أنماط العنف ويقدِّم تحليلاً للأحداث من منظار قانون حقوق الإنسان الدولي والقانون الإنساني الدولي. ويحاول الإجابة عن بعض الأسئلة الأساسية، وهي: ماذا حدث؟ وأين؟ ومتى؟ ومن؟ وكيف؟
يشير التقرير إلى أنَّ «الذاكرة الجماعية للأحداث المؤلمة، التي تناقلتها الأجيال في كل مجتمع من المجتمعات اللبنانية، ولكن التي نادراً ما كانت تعالَج، شكَّلت عنصراً أساسياً في اشتعال العنف المتكرر». وهو يقدِّم ملخَّصاً عن هذه الأحداث، مبيناً أنَّ «المجتمعات اللبنانية كافة تعاني من التأثيرات السلبية التي خلفها العنف»، ويتضمَّن خريطتين، إحداهما للبنان والأخرى لبيروت الكبرى، لتوضيح عدد كبير من الانتهاكات المذكورة.
يستند ٕالتقرير الى معلومات جُمعت من مصادر عدة ولا يقدّم بالضرورة معلومات جديدة، بل الهدف منه عرض أحداث العنف في مستند واحد على نحو يسمح بإدارجها ضمن عملية طويلة المدى وأوسع نطاقاً حول الاعتراف بما حدث للشعب اللبناني.
توضح كارمن حسّون أبو جودة، رئيسة برنامج المركز الدولي للعدالة الانتقالية في لبنان، أنَّ التقرير ليس مسحاً شاملاً، ولكن يجب استخدامه كمورد رئيسي تُبنى عليه الأبحاث والتحقيقات المستقبلية، وكذلك في النقاش الوطني حول حقّ الضحايا بمعرفة الحقيقة وبتحقيق العدالة والتعويض. ويشكل التقرير بحسب ابو جودة واحداً من نتاجات مشروع عنوانه «معالجة إرث النزاعات في مجتمع منقسم» يمتد على سنتين ويحظى بتمويل الاتحاد الأوروبي، الهدف منه المساهمة في الحدّ من خطر تكرار العنف في لبنان، وذلك من طريق معالجة إرث النزاعات المتعددة التي وقعت على الأراضي اللبنانية. كذلك سيُصدَر تقريران آخران، يتناول الأول تأثير الإفلات من العقاب على الاستقرار في لبنان، والثاني يعرض تطلعات الناس حول تدابير العدالة الانتقالية. وستستخدم هذه المنشورات مجتمعةً في دعم النقاشات المستقبلية حول كيفية الخروج من دوامة العنف السياسي في لبنان.
ويضمّ فريق الدارسة كلاً من لين معلوف، وهي باحثة تعمل ضمن وحدة أبحاث متعددة التخصصات حول الذاكرة التابعة لمركز الدراسات للعالم العربي المعاصر في جامعة القديس يوسف؛ ولوك كوتي، وهو خبير في مشاريع التخطيط ولجان تقصي الحقائق؛ وتيو بودروش، وهو استشاري في القانون الدولي؛ بالإضافة إلى الباحثين سمر أبو زيد، حسن عباس، وجيه ابي عازار، رومي نصر، طارق زين الدين ونسيب خوري.
لا يسعى التقرير الى تحديد أسباب العنف او تحليلها سياسياً، ولا الى تحديد المسؤولية الجنائية للمتورطين فيه. وقد تعمد الإيجاز في وصف الأحداث وفي عرض تفاصيلها، وذكر جهات سياسية وحزبية ولم يسمّ أشخاصاً محددين، وفي الكثير من الأحيان اعتمد وصف الحدث دون تحديد الجهة التي تقف وراءه.
اللافت في التقرير العودة الى درجة التوازي ما بين أعمال العنف خلال العامين ١٩٧٥ – ١٩٩٠، واعمال العنف في حقبة ما يعرف بالسلم الاهلي، وهو توازياً يؤكد ان اعلان انتهاء الحرب في عام ١٩٩٠ كان مجرد حدث إرادي لأطراف الصراع برعاية اقليمية ودولية، ولم يكن على الاطلاق انتهاءً فعلياً للحرب التي استمرت باشكال اخرى، وشهدت في عدة مراحل عودة العنف المسلح، ولا سيما الحروب الاسرائيلية على لبنان، وابرزها عاما ١٩٩٦ و ٢٠٠٦ مروراً بعام الاغتيالات السياسية في ٢٠٠٥، وما تلاه من توترات طائفية ومذهبية لا تزال مستمرة الى اليوم.
ويعتبر التقرير احداث العنف في لبنان، انتهاكات جسيمة للقانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والقوانين المرعية في لبنان. وتشمل الانتهاكات الجسيمة الجرائم ضد الحياة والسلامة الجسدية والنفسية، ولا سيما عندما تكون مرتكبة بطريقة منهجية.
ورغم ان التقرير يقدم روايته للحدث من منظار القانون الدولي، إلا انه اغفل الاشارة الى ان إنشاء محكمة دولية خاصة بحدث اغتيال رفيق الحريري واكثر من ٦٨ شخصاً في عام ٢٠٠٥، شكل علامة فارقة في إنصاف جزء من ضحايا الجرائم على ما عداهم. وهو أمر أكدته زينة صفير من وحدة المتدربين على اجراءات المحاكمة في المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، التي اشارت في مداخلة إلى أن المحكمة عندما قررت فتح خط ساخن لتلقي شكاوى عائلات الضحايا، فوجئت بأن عدداً كبيراً من المتصلين لم يكونوا على علاقة بجريمة ١٤ شباط، بل بجرائم أخرى تعود الى فترة الحرب الاهلية وما تلاها، وهو دليل على ان عائلات الضحايا لم ينسوا معاناتهم، ويطالبون بالإنصاف والعدالة، حتى لو لم تشمل المحاكمات التعويضات المالية.
الباحثة لين معلوف بدورها أكدت مسألة عدم النسيان، «ووجوب الاعتراف لعائلات الضحايا بما حصل لهم، وأن نرتّب حاجاتهم بحسب الأولوية، متغاضين، لا بل متعالين على كافة الدوافع السياسية الأخرى. ومن حقنا أيضاً أن نرى الجهات التي تمثلنا وتحكمنا تتبنى السياسات والقرارات التي من شأنها أن تمنع حصول هذا العنف مجدداً أو على الأقل أن تمنع حصوله من دون أي مساءلة».
مدير منظمة «هيومن رايتس واتش» نديم حوري، شدد على ان قراءة التقرير تعيد طرح مسألة العدالة والنظرة الى الطبقة السياسية اللبنانية بحسب مسؤوليتها المتفاوتة في جرائم الحرب.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى