إردوغان في الداخل والخارج.. الزعيم الإسلامي الوحيد!
حتى نفهم نهج الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وسياساته العقائدية في الخارج، لا بدَّ من أن نعود بالتاريخ قليلاً إلى الوراء، ونطّلع على سياسة “فرّق تسد” التي طبّقها مع منافسيه الإسلاميين في الداخل، فقد كان إردوغان من أهمّ القيادات الشابة التي كان الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان يعتمد عليها في حزب “الرفاه” الوطني، وهو الحزب الإسلامي الثالث بعد حزب “النظام الوطني” و”السلامة الوطني”، اللذين حظر العسكر نشاطهما قبل انقلاب 1980 وبعده.
وقد رشّح أربكان الشاب إردوغان لعضوية البرلمان في انتخابات تشرين الأول/أكتوبر 1991، إلا أنّ الحظ لم يحالفه للفوز، بسبب النظام الانتخابي الَّذي كان لصالح مرشح آخر من الحزب المذكور، فأراد أن يعوّض عليه، ورشّحه في الانتخابات البلدية في إسطنبول في آذار/مارس 1994، فحالفه الحظ هذه المرة ليفوز فيها بنسبة 25% من الأصوات، بعد أن فشلت أحزاب اليمين واليسار في توحيد صفوفها، فحصل مرشّحا اليمين معاً على 44،5%، مقابل 32,5% من الأصوات التي حصل عليها مرشّحا اليسار.
وكانت رئاسة بلديّة إسطنبول البوابة التي دخل منها إردوغان عالم السياسة، وخصوصاً بعد أن وضع في السجن في أواخر نيسان/أبريل 1999، بتهمة تحريض الشعب على التمرّد، ليخرج منه في 24 تموز/يوليو 1999 وهو يفكّر “في الأعالي”. وكان ذلك بداية التمرّد الذي قاده ضد زعيمه ومعلّمه نجم الدين أربكان، فنافسه على زعامة الحركة الإسلامية عندما كان الأخير محظوراً من العمل السياسي.
وقد قاد حركة التمرّد هذه رفيق دربه عبد الله غول، الذي رشّح نفسه في أيار/مايو 2000 لزعامة حزب “الفضيلة” الذي حلّ محلّ “الرفاه” الذي تم حظر نشاطه من قبل المحكمة الدستورية بعد التدخل العسكري في صيف العام 1997، إلا أنّ الحظّ لم يحالف غول ضد منافسه رجائي كوتان المدعوم من أربكان، ما دفعه، وبتعليمات من إردوغان، إلى تشكيل حزب “العدالة والتنمية” في آب/أغسطس 2001. وانتصر الحزب في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2002، بعد أن حصل على 36% من الأصوات التي كانت كافية لسيطرته على 66% من مقاعد البرلمان.
وكان هذا الانتصار بداية الطريق بالنسبة إلى إردوغان الذي عاد إلى المعترك السياسي بعد التعديل الدستوري الَّذي ألغى الحظر المفروض عليه، فأصبح رئيساً للوزراء في 9 آذار/مارس 2003، بعد أن قال “إنه خلع عباءة “الرفاه” الإسلامي، وارتدى زياً جديداً يلائم معطيات الدولة والمجتمع”.
وكان ذلك بداية الصراع بينه وبينه زعيمه أربكان، الّذي قال عنه وعن حزبه الكثير، وفي أكثر من مناسبة، ومن ذلك “أنهما صنيعا الماسونية والصهيونية العالمية والإمبريالية والقوى الصليبية”، من دون أن يبالي بكل ما قاله زعيمه عنه. واستمر في مسيرته السياسية، وبذل ما بوسعه لإبعاد كل الإسلاميين عن زعيمه أربكان، وهو ما نجح فيه بعد أن حظرت المحكمة الدستورية نشاط حزب “الفضيلة”، وحل محله حزب “السعادة” الذي فقد شعبيته مع صعود نجم إردوغان السياسي “بفضل الدعم الإمبريالي والصهيوني له”، والقول لأربكان.
واستغلّ الداعية والإمام فتح الله غولان المقيم في أميركا منذ آذار/مارس 1998 الخلاف بين إردوغان وزعيمه العقائدي أربكان، فنجح في التغلغل داخل جميع مؤسسات الدولة وأجهزتها، وبرضا ودعم من إردوغان الَّذي كان همه الوحيد هو التخلّص أولاً من أربكان، وهو ما تحقّق له، وخصوصاً بعد وفاته في 27 شباط/فبراير 2011.
وكان من الطّبيعي أن ينفجر الخلاف والصراع بينهما بعد المعلومات والتحليلات التي كانت تتحدّث عن مشروع غولان للسيطرة على جميع مفاصل الدولة التركية، حتى يتسنى له التخلص من إردوغان، خريج مدرسة الإمام والخطابة، في الوقت المناسب، ليعود بعد ذلك إلى تركيا كما عاد آية الله الخميني إلى إيران.
وجاءت تسريبات الأمن الموالي لغولان في 17 كانون الأول/ديسمبر 2013 لتسجيلات صوتية تثبت تورّط إردوغان وأفراد عائلته ووزرائه في قضايا فساد خطيرة، كما أثبتت تورّطه عسكرياً في سوريا، لتكون بداية الحرب بين الطرفين. وانتهت هذه الحرب بمحاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016، والتي شكّك زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو في جديتها.
واستغلّ إردوغان هذه المحاولة، وتخلّص من عشرات الآلاف من أتباع وأنصار غولان في الجيش والأمن والمخابرات والقضاء، ليسيطر بعد ذلك على كل شيء، بما في ذلك الساحة الدينية التي تحاول بعض الطرق والتكايا والمشيخات أن تملأ الفراغ الناتج فيها من تصفية غولان، في الوقت الذي يعرف الجميع أن هذه الزوايا والتكايا والمشيخات لا سلطة دينية لها إلا بالكمّ والكيف الذي يسمح به إردوغان، الذي تفرغ بعد ذلك لجميع منافسيه وأعدائه سياسياً وعقائدياً، وهو مستمر في مساعيه لأسلمة الدولة أولاً، ثم الأمة التركية برمتها، فقد تخلّص إردوغان من رفيق دربه عبد الله غول ومعظم قيادات الحزب السابقة، ومنها أحمد داوود أوغلو وعلي باباجان وآخرون.
كما نجح في إقناع نعمان كورتولموش، زعيم “حزب صوت الشعب”، بحل حزبه والانضمام إلى حزب “العدالة والتنمية” في 22 أيلول/سبتمبر 2012، وذلك بعد عامين من تأسيس هذا الحزب. وكان كورتولموش قد انشق عن حزب “السعادة” بزعامة أربكان، وكان يشن هجوماً لاذعاً على إردوغان، فكسبه إلى جانبه بحقيبة وزارية.
وكان انتصار إردوغان الآخر في هذا الاتجاه هو وزير الداخلية الحالي سليمان صويلو، وهو قومي الميول، إذ أقنعه بالاستقالة من زعامة الحزب الديموقراطي والانضمام إلى حزبه، وهو ما فعله مع زعيم حزب الحركة القومية دولت باخشالي، الذي كان من ألدّ أعدائه حتى العام 2016، فجعل منه شريكاً له في السلطة ما دام بحاجة إلى التيار القومي، المعتدل منه والمتطرّف، ليستفيد منه في شحن الشعور القومي خلال معاركه الخارجية.
ولم يهمل إردوغان ما تبقّى من الإسلاميين، ويقال إنه كان وراء انشقاق نجل نجم الدين أربكان، فاتح أربكان، عن حزب “السعادة” وتشكيل حزب “الرفاه الجديد”. وتتوقّع المعلومات لفاتح أربكان أن ينضم قريباً إلى حزب “العدالة والتنمية” مقابل حقيبة وزارية أو منصب قيادي فيه.
كما سعى إردوغان مؤخراً، وما زال، لإقناع قيادات حزب “السعادة” حتى تبتعد عن تحالف الأمة الّذي يضمّ حزب الشعب الجمهوري والحزب الجيد والمدعوم من حزب الشعوب الديموقراطي الذي حقّق انتصاراته الكبيرة في الانتخابات البلدية في إسطنبول وأنقرة وبلديات أخرى، بعد أن صوت أنصار الأحزاب الأربعة لمرشحي حزب الشعب الجمهوري.
وعندما رفضت قيادات السعادة طلب إردوغان، لم يتردّد بدوره في الاتصال بشخصيات وقيادات دينية، في محاولة منه لتمزيق “السعادة” وكسب البعض من قياداتها وكوادرها إلى جانبه، حتى لا يبقى في الساحة السياسة الإسلامية أي منافس له، مهما كان حجمه وتأثيره.
وهذا هو الحال في سياساته الخارجية، عبر تدخّله في سوريا وليبيا وباقي دول المنطقة إلى جانب حركات الإسلام السياسي بمختلف ميولها الإخوانية، السياسية منها والمسلحة، ليقال عنه إنه الزعيم الإسلامي الوحيد الذي يتبنى قضايا كل الإسلاميين والمسلمين في العالم ويدعمها ويدافع عنها.
وجاءت سنوات “الربيع العربي” وانقلاب السيسي في مصر ودعم السعودية له، لتساعد كلها إردوغان على تحقيق البعض من أهدافه، بعد أن ابتعد الإخوان ومن هم في خانتهم عن آل سعود ونهجهم الوهابي. وسبق ذلك مساعي الغرب لتسويق “تجربة حزب العدالة والتنمية الديموقراطية في بلد مسلم وعلماني”، ليس فقط إلى المنطقة العربية، بل إلى كل الدول الإسلامية وقواها المختلفة في جميع أنحاء العالم، وخصوصاً بعد أن تراجعت التجربة الماليزية بغياب الرئيس التاريخي مهاتير محمد عن الساحة السياسية.
وقد أصبح سلوك إردوغان داخلياً، وهو يحاول التخلّص من جميع منافسيه ومعارضيه سياسياً وعقائدياً، نتيجة حتمية لتصرفاته الخارجية التي يستذكر من خلالها تاريخ الإمبراطورية العثمانية، إذ كان سلاطينها (قتل معظمهم حتى أفراد عائلاتهم من أجل السلطة) خليفة على الأمة التركية والإسلامية عموماً.
ويفسّر كلّ ذلك المسلسلات التاريخيّة التي تتحدّث عن هذا التاريخ العثماني منذ دخول الأتراك إلى الأناضول في العام 1071، وبعدها إلى إسطنبول في العام 1453 في عهد محمد الفاتح. وقد حكم بعده الدولة العثمانية 29 سلطاناً (قبله 6)، منهم سليمان القانوني، وبقي في السلطة 45 عاماً، أي أكثر بـ12 عاماً من فترة السلطان عبد الحميد الذي يعد إردوغان معجباً به!
الميادين نت