إردوغان وأسس المرحلة الجديدة في سوريا

 

تبدَّل مناخ الشمال السوري مع بداية الربيع، على وقع تطوّرات دراماتيكية تنوَّعت بين المعارك الميدانية والدبلوماسية والجهود السياسية المبنية على آفاق استراتيجية تتّضح يوماً بعد آخر، وتغيّر حسابات اللاعبين في الأزمة المتّجهة نحو خواتيمها.

هذا التبدّل الّذي يختزن الكثير من المعاني فرضته التطورات الأخيرة التي تمثّلت بارتفاع أكلاف المواجهة المباشرة بين تركيا من جهة، والجيش السوري وحلفائه من جهةٍ أخرى، والتي راح ضحيّتها عشرات الجنود والمقاتلين من الطرفين، مع فوارق كبيرة في أثر هذه الأكلاف في كلٍ من الطرفين.

كانت الكلفة السياسية للخسائر في الأرواح أكبر على تركيا مما هي عليه بالنسبة إلى الطرف الآخر بما لا يقاس، وذلك يعود إلى نقطتين: النقطة الأولى تتمحور حول مشروعية التضحية والموقف في المعركة، ما يضع تركيا في موقف الغازي غير المحق، بينما يقف الفريق الآخر في موقف المدافع عن النفس والساعي إلى استعادة أرضه، وبالتالي فإن تضحياته مبررة أمام شعبه.

والنقطة الأخرى تتمثل بالفوارق في جهوزية الشعب لتلقّي مثل هذه التضحيات، إذ تأقلم الشعب السوري والحلفاء مع ضرورة تقديم التضحيات، بينما يقدم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان صورة جيشه على أنه القوة الثانية في حلف شمال الأطلسي، وأنه غير قابلٍ للهزيمة، مع رفع سقف توقعات شعبه إلى أقصاها، الأمر الذي يرفع كثيراً من أثر الخسائر البشرية السلبي في معنويات جنوده وشعبه، ويؤدي تالياً إلى زيادة الكلفة السياسية عليه جراء سقوط ضحايا بين الجنود في معركةٍ غير مبررةٍ بصورةٍ كافية، وخصوصاً مع نزع سوريا فتيل “شمّاعة” الخطر الكردي، من خلال التطمينات المستمرة التي تقدّمها لأنقرة حول عدم قبول دمشق بكيانات قومية مستقلة في الشمال السوري (معادية لتركيا)، وهو ما أعاد الرئيس السوري بشار الأسد تأكيده في مقابلته الأخيرة مع قناة “روسيا 24”.

إردوغان ومشهد الانتظار

الحصيلة التركية الكبيرة من الخسائر، والتي وصلت إلى 59 قتيلاً، غيّرت بصورةٍ سريعة مواقف إردوغان الذي بدا مكسوراً عند لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. مشهد انتظاره لدقائق طويلة عند باب الرئيس الروسي كان لافتاً للكثير من المراقبين، وهو مشهدٌ مليء بالمعاني.

ليست هذه صورة السلطان العثماني التي كان يأمل تظهيرها من خلال أدائه في الإقليم. هذه الصورة تتَّسق تماماً مع تقهقر موقفه إلى حدودٍ خلفية عند نقطة: “أي حلٍ يضمن حياة سكان إدلب ويؤمن حدود تركيا يعدّ مقبولاً بالنسبة إلى تركيا”، وهو بعد إعلانه حجم خسائر بلاده في إدلب السورية، تراجع إلى الحديث عن “حق” بلاده في اتخاذ إجراءاتٍ أحادية الجانب “لتطهير محيط منطقة عملية درع الربيع في حال عدم الالتزام بالوعود المقدمة لها في إطار الاتفاق مع روسيا حول وقف إطلاق النار في إدلب”.

وقد ربط هذا التراجع بغاية متواضعة وراغبة في الحجّة والشرعية: “خلق أجواء مناسبة لعودة 3.6 ملايين سوري في أراضينا، و1.5 مليون في إدلب على حدودنا، إلى منازلهم بشكل آمن”، متبرئاً من نية “احتلال أو ضمّ أجزاء من الأراضي السورية”.

تركيز الرئيس التركي بدا منصبّاً بعد الاتفاق مع الروس على ابتزاز أوروبا بموضوع اللاجئين، من خلال دعوة اليونان إلى فتح حدودها أمامهم، والسماح لهم بالذهاب إلى بلدان أوروبية أخرى.

هذه الصّورة الناعمة لإردوغان لم تكن كذلك قبل أيام قليلة فقط، إذ حاول مع بداية آذار/مارس الرد على مقتل 39 جندياً من جنوده في جبل الزاوية وفرض أمر واقع في إدلب، مستفيداً من دعمٍ أميركي لفظي، ومعتمداً على حاجة أوروبا إليه في موضوع اللاجئين، ووقوفه على نقطة تقاطع مصالح جيوسياسية كبرى للدول العظمى المتنافسة، التي ترغب بطبيعة الحال في اجتذاب تركيا إلى جانبها، لكن ما كان يطلبه الرئيس التركي أكبر مما يمكن لقدراته أن تمكّنه منه.

هذه المحاولة تصدّى لها الجيش السوري وحلفاؤه في الميدان، فلم يتمكّنوا من إيقاف الأتراك ميدانياً فحسب، بل استطاعوا أيضاً تفكيك محاولة زرع الشقاق بينهم، واستدراج الأميركيين إلى الانخراط في المواجهة مجدداً، وبصورةٍ مباشرة، لكن أهم نتائج تلك المواجهة كان تراجع إردوغان السريع، مع تبدّل مقاربته بصورةٍ حادة هذه المرة.

وبقياس سرعة وحدة التغيير الذي أحدثته المعركة في الموقف التركي الرسمي، يمكن القول إنَّها من أكثر المعارك تأثيراً في سلوك إردوغان خلال الحرب السورية، إذ لا مفرَّ من القول إنَّ تقييمه المعطيات الميدانية والسياسية وخيارات الدول الكبرى خلالها، كان الأفضل بين خياراته السابقة منذ فترةٍ طويلة. لقد أظهر الرئيس التركي واقعيةً غابت خلال السنوات المنصرمة بدرجةٍ كبيرة.

وعلى الرغم من أنّه ليس واضحاً حتى اللحظة مدى فصل بوتين وإردوغان معركة إدلب عن اتجاهات التصعيد في ليبيا، فإنَّ جزءاً من “جزرات” الحلّ التي أعطيت للرئيس التركي ظهرت مباشرةً بعد الاتفاق الَّذي توصل إليه مع نظيره الروسي، وكان أولها الكشف عن أن منظومة “أس 400” الروسية التي استلمتها تركيا من روسيا بشكلٍ كاملٍ ستعمل في شهر نيسان/أبريل 2020. وفي الوقت نفسه، تستمر أنقرة في مساعيها للحصول على منظومة “باتريوت” بصيغتها الموازية للمنظومة الروسية (وفق التقديرات العسكرية للناتو).

بالتزامن مع ذلك، بدت لافتةً إشارة الرئيس التركي إلى أن الولايات المتحدة كانت تستطيع إرسال معدات عسكرية إلى إدلب، إلا أنَّ هذا الدعم لم يصل إلى بلاده. ووفق تحليل المعطيات، يتبيَّن أن أهداف تركيا من المحاولة الأخيرة في إدلب لم تتحقّق كما تم التخطيط لها، إذ لم تتمكَّن من فرض بقاء جيشها في سوريا بعمقٍ بحجم محافظة إدلب، كمقدمة تأسيسيّة لموقف تركي قوي في شرق الفرات، ولم تتمكَّن وفق ما يظهر حتى الآن من الاستفادة من هذه المحاولة لتحقيق مكتسبات تحسّن شروط انخراطها في الأزمة الليبية.

إذاً، اختمرت بسرعة الحاجة التركية إلى التراجع عن مغامرة إدلب، وأنتج هذا النضوج خيارات تركية مختلفة. في المقابل، تواضعت مقاربة الرئيس السوري بشار الأسد لنتائج المعركة الأخيرة، ليمدّ يده إلى تركيا بصورةٍ فيها الكثير من التحفظ والإيجابية في آنٍ معاً، فهي مقاربة تحافظ على الكرامة الوطنية السورية كدولةٍ صاحبة حق في أرضها وسلامها المتحرر من الاعتداءات الطامعة في الشمال، وفي الوقت نفسه مقاربة واقعية تعرف ضرورات المرحلة المستقبلية، وعدم خسارة العلاقات مع دولة كبرى في الإقليم، والمصالح الضرورية التي يجب البناء عليها بين الدولتين، بصرف النظر عن الأشخاص الموجودين في الحكم والأحلام التي تعتريهم.

أسس المرحلة الجديدة

لقد أسَّست هذه التطورات، ومن ضمنها خطاب الأسد والاتفاق الجديد بين أنقرة وموسكو، للمرحلة الجديدة في سوريا، فالرئيس السوري استبق الموقف التركي المتراجع عن المغامرة، ليعيد تحديد حقوق بلاده في الشمال، وتأكيد عدم نيتها العدوانية تجاه أي دولةٍ أخرى، وليعطي المرحلة المقبلة فرصها لإعادة شبك العلاقات بين تركيا وسوريا على أساس المصالح المشتركة، بعيداً من الأوهام الشخصية للحكام، ورغباتهم الإيديولوجية، أو نكوصهم التاريخي غير المتّسق مع روح العصر ومعطياته.

شدّد الأسد في كلامه لـ”روسيا 24″ على هذه الناحية: “الانتماء الإخواني لإردوغان كان فوق كلّ شيء”، مشيراً إلى أنّ “حركة الإخوان المسلمين ليس لديها أخلاق سياسية أو اجتماعية، ولا حتى دينية. هذا هو منهج إردوغان”. معنى ذلك أنّه حدّد أصل الخلاف بين الدولتين، لكنه أورد سريعاً إشارةً بنّاءةً تساعد في التقريب بينهما: القوات السورية لم تقم بأي عمل عدائي ضد تركيا، وتخلّي إردوغان عن دعم الإرهاب أساسٌ “حتى تعود العلاقات بين البلدين”.

الحديث عن عودة العلاقات بين البلدين في هذه اللحظة، وبعد معارك إدلب، ليس تفصيلاً أبداً؛ إنه الأفق المنطقي للأحداث. من الحدّة تولد الليونة. هذا ما استخرجه الرئيس السوري من قلب المغامرة التركية في إدلب، ليقول في مغزى كلامه إنّ كلفة الحرب بانت، وإنّ فرص السّلام واستعادة العلاقات الجيّدة يمكن أن تبدأ الآن.

كانت هذه الإشارة شبه مباشرة، وتأكَّدت أكثر حين قال إنَّ “الهدف المشترك بين سوريا وروسيا لطالما كان إبعاد تركيا عن نهج دعم الإرهابيين وإعادتها إلى مكانها الطبيعي”. هذا المكان الطّبيعيّ في فهم الرئيس السوريّ هو العلاقات الطيبة بين بلاده وتركيا، فلا توجد في سوريا “قضية يستحق أن يموت الأتراك من أجلها”.

لكن الإشارة الأكثر طمأنينة لإردوغان في كلام الأسد كانت تأكيد الأخير أنَّه ليس هناك شيء اسمه القضية الكردية في سوريا، وأن مشكلة دمشق محصورة بالكرد المطالبين بالانفصال. هذا الموقف يلتقي مع مخاوف أنقرة من كيانٍ كردي منفصل، سيكون في ما لو تحقّق واقعاً معادياً لدمشق وأنقرة معاً. المسألة الكردية، وفق هذا الفهم، تبدو نقطة لقاءٍ سورية- تركية، وهي بالتأكيد نقطة مناسبة لبداية إعادة العلاقات المشتركة إلى موقفها الطبيعي المفيد للدولتين الجارتين.

ومع إشارته إلى ركائز سوريا المستقبلية، ومرحلة إعادة الإعمار، والقوى التي لا تزال تعرقل الجهود السّورية في سبيل ذلك، إضافةً إلى عرقتلها جهود الدول الراغبة في الاستثمار في مرحلة إعادة الإعمار، ونية دمشق إجراء الانتخابات التشريعية خلال أشهر قليلة، يكون الأسد قد رسم مسار سوريا المستقبلية، بعد تثبيت قدراته الردعية في الشمال بوجه القوة الأكثر قدرة على المشاكسة.

هذا في الموقف. أما في التوقيت، فإنَّ هذه الإضاءة السورية على طريق المرحلة المقبلة، جاءت مباشرةً بعد إخضاع هذه القوة التي كانت نظرياً قادرة على المشاكسة حتى لحظة ما قبل معارك إدلب.

وساندت معطيات عديدة هذا المنطق السوري، منها موقف روسيا الداعم والمؤكد لحق دمشق في رسم مستقبلها الجديد، وقبل ذلك حقّها وحدها وحق من ترتضيه معها في مكافحة الإرهاب، فضلاً عن أنّ عملية القضاء على المسلّحين في سوريا يجب أن يقوم بها في المقام الأول الجيش السوري والقوات الرديفة له.

المتحدّثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا قالت ذلك حرفياً: “القضاء على المسلّحين والإرهابيين.. يجب أن يكون أولاً، وقبل كل شيء، من قبل السوريين، والقوات المسلحة السورية، وتلك القوات والبلدان المتواجدة على أساس شرعي وتتعاون مع السلطات السورية. هذا الموقف مبدئي ولم يتغير”.

ثمة تناغمٌ واضح مع هذا الواقع المرسوم في الميدان، تبيّن من خلال موقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي أعرب عن أمله بأن تفضي الاتفاقيات الموقّعة بين تركيا وروسيا بخصوص إدلب إلى وقف فوري ودائم للأعمال القتالية، إضافةً إلى موقف الاتحاد الأوروبي، الذي قال مسؤول السياسة الخارجية فيه، جوزيف بوريل، إن الاتفاق أمر جيد، وهو شرط مسبق لتقديم المزيد من المعونات الإنسانية الأوروبية لإدلب.

وانسحبت الإيجابية الوليدة من عمق نتائج المعارك على الموقف الأميركي، الذي رضخ متمنياً أن تساهم الاتفاقية الجديدة بشأن إدلب في تخفيف حدة الوضع.

في النتيجة، قلّمت نتائج الميدان أظافر المواقف الطائشة، وحدَّدت أسس المرحلة المقبلة، لكنَّ الأهم أنَّ ذلك رفع منسوب العقلانية، وأعاد إلى الشمال السوري، وبيئة الأزمة برمّتها، الروح الإيجابيّة التي تحمل الكثير من الآمال للشّعب السوريّ.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى