إردوغان والعرب.. صفر مشاكل أو صفر جيران؟

 

بدأ الانفتاح التركي على سوريا مع زيارة الرئيس الأسبق أحمد نجدت سازار إلى دمشق، للمشاركة في مراسم تشييع جنازة الرئيس الراحل حافظ الأسد. وكانت دمشق أيضاً في 5 كانون الثاني/يناير 2003 المحطة الأولى في جولة رئيس الوزراء السابق عبد الله غول إلى المنطقة، لمنع الحرب على العراق، وكان معه مستشاره أحمد داوود أوغلو، صاحب مقولة “صفر مشاكل مع الجيران”، وهو الآن، ومعه غول والأغلبية الساحقة من مؤسسي العدالة والتنمية، من ألدّ أعداء الرئيس رجب طيب إردوغان.

لم يمنع ذلك إردوغان من الاستمرار في سياسات “الانفتاح” على المنطقة، ولكن بعقلية جديدة يصفها البعض في الداخل والخارج بـ”التوسعية”. ومع استمرار دعم داوود أوغلو، كزعيم لحزب المستقبل، لهذه السياسات “التوسعية” ذات الطابع القومي، إلا أنّ الرئيس إردوغان وطاقمه الجديد بات ينظر إلى الأمور بمنظار سياسي وعقائدي وشخصي مختلف. ويفسر ذلك الواقع العملي للسياسة التركية أولاً في المنطقة، وبالتالي في العالم أجمع، وخصوصاً في المناطق التي تواجد فيها العثمانيون اعتباراً من القرن الرابع عشر، فقد أولى الرئيس إردوغان اهتماماً شخصياً بالمنطقة العربيّة، إيماناً منه أولاً بولاء وبيعة الإسلاميين فيها له، وثانياً للكم الهائل من المسلّحين الموالين له فيها، وهو بحاجة إليهم في الكثير من مخططاته ومشاريعه الحالية والمستقبلية داخلياً وخارجياً.

ويؤمن إردوغان بأنّ هذا الكمّ والكيف من الموالين له سيساعده على تطبيق مشروعه الأكبر في المنطقة. ويقول زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، عن هذا المشروع، إنه جزء من مشروع الشرق الأوسط الكبير، فيما يعتبره إردوغان عموداً فقرياً لمشروعه الأكبر في إحياء ذكريات السلطنة والخلافة العثمانية، وهو ما لا يخفيه في العديد من خطاباته ومواقفه على الصعيدين الداخلي والخارجي، وآخر مثال على ذلك تحويل متحف آيا صوفيا إلى جامع.

ويقول الرئيس التركي إنَّ اهتمامات أنقرة بما يسمى بقايا العثمانيين في المنطقة، أي في سوريا والعراق وليبيا ولبنان، وفي الدول الأخرى التي حكمها العثمانيون حتى نهاية الحرب العالمية الأولى أيضاً، إنما تشكّل العمود الفقري لسياسته الخارجية التي تهدف إلى تحقيق التفوق التركي العسكري والسياسي والنفسي على كل الدول العربية والإقليمية والغربية التي لها حساباتها في المنطقة.

ويفسّر ذلك الفتور والتوتر الّذي تعيشه علاقات إردوغان مع الرئيس بوتين، وهو الحال مع الرئيس ترامب الذي لا يتردد في تهديداته وإهانته له لأسباب عديدة، ومنها قضية القس برونسون أو التدخل التركي شرق الفرات، وهو ما تحقَّق بالضوء الأخضر الأميركيّ والروسيّ معاً.

وجاء قرار إردوغان بإرسال الجيش التركي إلى قطر، لحماية آل ثاني من أي عمل عسكري سعودي وإماراتي ومصري، ليثبت للجميع أن تركيا إردوغان لم تعد تركيا ما قبل ما يُسمى بـ”الربيع العربي”، الذي أراد الغرب من خلاله تسويق حزب العدالة والتنمية كنموذج ديموقراطي علماني إسلامي لدول المنطقة وشعوبها وإسلامييها، وهو ما تحقَّق له بفضل الضوء الأخضر الذي أضاءه الرئيس بوتين للجيش التركي الذي دخل جرابلس في 24 آب/أغسطس 2016، ليصل إلى ما وصل إليه من مواقع استراتيجية، لا في سوريا فحسب، بل في العراق وليبيا والصومال وقطر أيضاً، مع الإشارة إلى أحاديث الإعلام عن نشاط فعال وقوي لجهات تركية متعددة في جميع الدول العربية التي يتواجد فيها الإسلاميون، وخصوصاً تونس ومصر والسودان والجزائر والمغرب وموريتانيا واليمن ولبنان.

واكتسب الحديث عن مثل هذا النشاط أهمية إضافية، لأنه جاء مع تأكيد الرئيس إردوغان أهمية الدور الذي أداه، ولا زال، جهاز المخابرات الوطنية في مجمل التحركات التركية في المنطقة والعالم أجمع، وهو ما يفسر انزعاج الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل من هذه التحركات التي تستهدف أمن هذه الدول واستقرارها، كما أوروبا عموماً، في الوقت الذي يعرف الجميع أن التحركات التركية في المنطقة تستهدف بطابعها التاريخي والقومي والمذهبي الدور الإيراني أولاً في الجارتين سوريا والعراق، ومن خلالهما في لبنان واليمن، وهو ما يرضي أنظمة الخليج، وخصوصاً السعودية والإمارات، اللتين تتحدثان باستمرار، ولكن دون أي موقف عملي عن “مخاطر السياسات التركية العدوانية والتوسعية” في المنطقة العربية.

ويشجّع هذا الموقف الخليجي “المتذبذب” الرئيس إردوغان على الاستمرار “والتمادي” في هذه السياسات التي بات واضحاً أنه لن يتراجع عنها، كما أنه لن ينسحب من سوريا وليبيا والعراق وقطر والصومال، والقول هنا له شخصياً، وفي أكثر من مناسبة تحدَّث فيها عن التزامه بدعم “المظلومين في حربهم ضد الظالمين”.

ولم يكن واضحاً المضمون السريّ للعلاقة التكتيكية والاستراتيجية بين إردوغان وكلّ من موسكو وواشنطن. ويعتقد الرئيس التركي أنَّهما معاً، أو على انفراد، لن تقوما بأيّ تحرّك عمليّ ضدّ سياساته “التوسعية” في المنطقة، ما دامتا مستفيدتين من هذه السياسات بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويفسّر ذلك استمرار التواجد التركي العسكري في سوريا والعراق وليبيا برضا روسي وأميركي مباشر أو غير مباشر، وحيث التواجد الروسي والأميركي الرسمي أو غير الرسمي في هذه الدول، وبشتى الوسائل العلنية والسرية التي أوصلت الدول الثلاث إلى ما وصلت إليه، بفضل دعم الأنظمة الخليجية لأنقرة. ولولا هذه الأنظمة، لما استطاعت الأخيرة أن تتدخّل في سوريا، وبأيّ شكل كان.

ومع استمرار هذا التآمر الخليجي، وهو حالة جينية بالنسبة إلى هذه الأنظمة، فقد بات واضحاً أن الرئيس إردوغان لن يرحمها. وعلى الرغم من الدعم الكبير الذي قدَّمته لتركيا دائماً، فقد هدّد المسؤولون الأتراك وتوعّدوا، ومعهم الإعلام الموالي للرئيس إردوغان، مصر والإمارات والسعودية، ويعتبر الرئيس إردوغان الدولة الأخيرة عائقاً أمام مشاريعه العقائدية والاستراتيجية.

ومع ولاء الغالبية العظمى من الإسلاميين العرب له، وليس لآل سعود، يعتقد الرئيس إردوغان ويؤمن بأنّ الكفّة تميل لصالحه في الحرب مع المملكة، ما دام أنه يتواجد في قطر واليمن، وسيتواجد قريباً عسكرياً في سلطنة عمان، ومن خلالها سيسعى إلى تضييق الحصار على آل نهيان، ويرى فيهم الرئيس إردوغان المموّل الأول والأكبر لكل من يعادي تركيا، التي تعتمد في الدرجة الأولى على آل ثاني في مجمل تحركاتها في المنطقة العربية، فيما تموّل الدوحة كلّ الإسلاميين في هذه المنطقة للانتقام من آل سعود.

هذا إن تجاهلنا نظريات المؤامرة التي ترى في قطر أداة ملتزمة في مجمل الحسابات الأميركية ذات الضوء الأخضر من اللوبيات اليهودية، ويعرف الجميع علاقاتها الخفية مع جميع الأنظمة الخليجية، ولو بدرجات متفاوتة، وإلا ليس هناك أي معنى لكل ما تقوم به قطر، بعدد سكانها الذي لا يتجاوز نصف مليون، والذين يعيشون على أرض لا تزيد مساحتها على 11 ألف كم مربع، كما ليس هناك أيّ مبرّر للدعم الماليّ القطريّ الشّامل والكبير للرئيس إردوغان.

ولولا هذا الدعم، لما استطاع أن يقوم بأي من فعالياته التي قام بها، ولا يزال، في سوريا وليبيا والعراق وباقي دول المنطقة العربية. وكانت هذه المنطقة منذ “سايكس بيكو”، وما زالت، وستبقى، هدفاً لخيانات وتآمر أنظمة الخليج التي تتلقى التعليمات والأوامر من واشنطن، حالها حال أنظمة وحكومات وشخصيات أخرى في المنطقة.

ويبقى الرهان على السيناريوهات المحتملة لمقولات الرئيس إردوغان، الذي بدأ مسيرته بصفر مشاكل مع الجيران، إلا أنه، وبعد 17 عاماً من حكمه، أصبح سبباً مباشراً لمشاكلها. ويبدو واضحاً أنّها لن تنتهي، ما دام إردوغان يريد لها أن تستمر ما دام في السلطة، وهدفها تصفير الجيران!

ويعرف الجميع أنَّ إردوغان يرى في مجمل هذه المعطيات المعقّدة عناصر مهمة تساعده في دغدغة المشاعر القومية والدينية لدى أتباعه وأنصاره، ما دام في وضع صعب جداً على الصعيد الداخلي سياسياً ومالياً واقتصادياً. هذا إذا تجاهلنا مخاطر الكيان الكردي المحتمل شرق الفرات، وهو نتاج السّياسات التركية في سوريا أولاً، والمنطقة عموماً، منذ بدايات ما يسمى بـ”الربيع العربي”.

يدفعنا ذلك إلى الحديث عن احتمالات أن يكون هذا الكيان سبباً رئيسياً لهذا “الربيع” بكل المساهمين فيه، كما كان الكيان الصهيوني نتاجاً لـ”سايكس بيكو”، والمساهمون فيه هم المساهمون نفسهم في الواقع العربي الحالي، مع فارق مهم، وهو أنَّ الكرد والمتآمرين منهم أيضاً (كالمتآمرين العرب وغيرهم) مع أميركا وحليفاتها، هم أبناء هذه المنطقة التي جاءها اليهود من مختلف أنحاء العالم بدعم من الحكومات “الصليبية”، التي تجاهلت حقيقة أن اليهود، وليس المسلمون، هم الذين صلبوا النبي عيسى (ع)، فتآمروا معاً على الشعب الفلسطيني، المسلم منه والمسيحي، وما زالوا يفعلون ذلك، وكأنَّ مسيحيي المشرق ليسوا من أتباع عيسى ابن مريم!

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى