إردوغان والمعارضة السورية.. بين التكتيك والاستراتيجية
بعد ساعات قليلة من نشر مقالي الأخير بعنوان “إردوغان والأسد.. لا مصالحة إلا بشروطه هو”، فوجئ الجميع بتصريحات وزير الخارجية، مولود جاويش أوغلو، الذي قال إنه “التقى لعدة دقائق، وبحضور وزراء آخرين، نظيره السوري فيصل مقداد، في بلغراد، على هامش أعمال الاجتماع الوزاري لدول عدم الانحياز”.
وحظيت تصريحات الوزير جاويش أوغلو باهتمام واسع من وسائل الإعلام التركية والعربية والدولية، وكأن شيئاً ما سيحدث على طريق المصالحة بين إردوغان والأسد، خاصة وأن إردوغان، وقبل يومين من تصريحات جاويش أوغلو، كان قد قال “إن الرئيس بوتين سعى لإقناعه بإجراء مكالمة هاتفية مع الرئيس الأسد، وهو رفض ذلك”. ومن دون أن يخطر في بال أحد من المتفائلين بأقوال جاويش أوغلو، أن لقاء بلغراد كان في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كما لم يقل جاويش أوغلو لماذا لم يتحدث عن الموضوع طيلة الفترة الماضية، التي لم يصدر خلالها أي تعقيب أو تعليق من الجانب السوري.
الموقف التركي هذا، أي تصريحات الوزير جاويش أوغلو، ومن قبله الرئيس إردوغان، يبدو واضحاً أنه كان جزءاً من التكتيكات التركية التقليدية في معالجة الأزمة السورية، مع استمرار تشابك العلاقات مع موسكو في مجالات عديدة، والحديث عن ضخ روسيا المليارات من الدولارات في المصرف المركزي التركي.
والتكتيك هذا جاء بعده تكتيك آخر أراد إردوغان من خلاله أن يقول لإيران وروسيا، شريكتيه في أستانة إنه “مستعد للمصالحة مع الأسد، ولكن المعارضة (هو يقول الشعب السوري) لا تقبل ذلك، بدليل التظاهرات التي خرجت في مناطق وجود الجيش التركي في الشمال السوري”. فقد شهدت العديد من المدن السورية، ومنها الباب وأعزاز وجرابلس وعفرين وإدلب ورأس العين وغيرها، تظاهرات استنكر خلالها المتظاهرون تصريحات الوزير جاويش أوغلو، ورفضوا “أي مصالحة مع النظام”.
والغريب في الموضوع أن عناصر الجيش والأمن والاستخبارات التركية لم يتدخلوا لمنع هذه التظاهرات، على الرغم من إحراق العلم التركي (أعزاز)، وإنزاله من ناصيته ورميه على الأرض (في جرابلس)، وهو موضوع حساس جداً بالنسبة إلى الأتراك.
فالأمن التركي الذي يتدخل، وبشكل عنيف، لمنع أي تظاهرة عمالية أو نسائية أو شبابية، مهما كان العدد قليلاً، ويعتقل المتظاهرين بعد ضربهم، لم يحرك ساكناً تجاه التظاهرات التي هددت وتوعدت تركيا في مناطق يسيطر عليها الجيش والأمن والاستخبارات التركية مع الآلاف من الموالين لأنقرة، واكتفوا بمراقبة الأحداث التي تغنت بها محطات الإذاعة والتلفزيون التابعة للمعارضة، والتي تبث برامجها من إسطنبول.
وجاء بيان الخارجية التركية ليساعدنا على فهم هذه التكتيكات، بعد أن كرر المواقف التركية المعروفة حيال الأزمة السورية، واتهم البيان “النظام بعرقلة تحقيق أي تقدم على طريق الحل للأزمة، عبر القرارات الدولية ومسار أستانة، وأهمها عمل اللجنة الدستورية”. ومن دون أن ينسى البيان “التأكيد على استمرار التضامن التركي مع الشعب السوري”، ويقصد هنا المعارضين للنظام بأشكالهم وفصائلهم وانتماءاتهم العقائدية كافة، وليس السياسية، باعتبار أن الجميع يأتمرون بأوامر أنقرة التي تأسس فيها ما يسمى بـ “الجيش الوطني السوري” في أيلول/سبتمبر 2019.
بيان الخارجية كان كافياً “لتهدئة الأوضاع” في المناطق الهادئة أساساً، في ظل تهرب أي مسؤول تركي من الإدلاء بأي تصريح بسيط ضد المتظاهرين، تجاه رد فعل الشارع الشعبي على إحراق العلم التركي.
وجاءت تغريدة وزير الداخلية، سليمان صويلو، على حسابه في “تويتر” لتؤكد ما ورد في بيان الخارجية إذ كتب”لقد بات واضحاً أن قسد ووحدات حماية الشعب الكردية والنظام والمندسين المحرضين هم من كانوا خلف الأحداث الأخيرة. وأن تركيا لم ولن تتخل عن المواطنين الذين يئنون تحت وطأة مظالم النظام، والاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وستستمر في التضامن معهم، وستحافظ على صداقاتها وإنسانيتها وجيرانها”.
الإعلام الموالي لإردوغان تجاهل الأحداث برمتها، في محاولة لتهدئة الشارع التركي، المشحون أساساً تجاه اللاجئين السوريين، بعد الحملات التي تستهدفهم من أوساط مختلفة، بما فيها تلك التي تكتسب طابعاً قومياً وعنصرياً خطيراً تستغله أوساط داخلية وخارجية لتذكر الشعب التركي “بالذكريات السيئة بين العرب والأتراك وعداءاتهم التاريخية”.
مجمل هذه التكتيكات هي بمثابة فقرات الاستراتيجية التركية الثابتة حيال الأزمة السورية، ويبدو واضحاً أن إردوغان، وعلى الأقل، حتى الانتخابات القادمة، لا يريد أن يتورط في مطباتها المعقدة طالما أنه يستفيد من معطياتها. فبعد تظاهرات الاستنكار في الشمال السوري، سيدافع إردوغان عن موقفه الرافض لأي مصالحة مع الرئيس الأسد، ليقول لكل من سيطلب منه ذلك “أنا مستعد، ولكن الشعب السوري لم ولن يقبل بذلك، وأنا لا أستطيع أن أواجه 9 ملايين سوري، 4 منهم في تركيا و5 في الشمال السوري”. وسيستخدم الوضع في الشمال السوري بتطوراته الأخيرة “كورقة مساومة”، ليس فقط مع روسيا وإيران، بل أيضاً مع أميركا والغرب، إن طلبوا منه الخروج من المنطقة، فسيقول لهم “طالما أنتم موجودون في شرق الفرات فأنا في غربه، والشعب السوري لا يريد خروجي بدليل التظاهرات الأخيرة”.
وجاء التعليق المختصر على مجمل هذه التطورات من نائب رئيس الوزراء الأسبق، عبد اللطيف شنار، وهو من أهم مؤسسي حزب “العدالة والتنمية”، الذي استقال من منصبه عام 2007 استنكاراً لقضايا الفساد التي تورط فيها إردوغان، إذ قال “إن إردوغان لم ولن يكن جاداً في حديثه عن حل المشكلة السورية لأنه سببها الرئيسي”.
وذكّر شنار بما قاله إردوغان، في خلال السنوات الأخيرة، ضد حكام السعودية ومصر و”إسرائيل” والإمارات، وقال “مع ذلك، تراجع إردوغان عن جميع مقولاته السابقة، وهرول لمصالحتهم، رغم كل المشاكل مع هذه الدول. علماً أن الأسد لم يفعل أي شيء ضد تركيا، على الرغم من كل ما فعله إردوغان في سوريا. لذا، فالمصالحة معه سهلة جداً، هذا إن أراد إردوغان ذلك، ولكنه لن يفعل ذلك لأسباب عديدة، أهمها حساباته الاستراتيجية المعقدة سياسياً وعقائدياً، وعلاقاته المتشابكة في إدلب والمناطق التي تدار من قبل الأتراك غرب الفرات وشرقه”.
ويبقى الرهان، كالعادة، على التطورات المفاجئة في السياسات الإقليمية والدولية، التي قد تؤثر في موقف إردوغان في سوريا، لأن ما يهمه الآن هو شيء واحد ألا وهو البقاء في السلطة، ومهما كلفه ذلك وكلف تركيا. ووضع كثيرون في الداخل والخارج من أجلها، أي تركيا، العديد من الحسابات، ليس فقط بسبب تموضعها الجيو- سياسي، بل أيضاً لدورها الفعال في سوريا والعراق وليبيا والصومال ومواقع أخرى، بفضل ما يسمى بـ”الربيع العربي”، ودعم العواصم الغربية والأنظمة العربية التي تآمرت على سوريا، وها هي الآن تتمادى في ذلك، وهذه المرة عبر التطبيع مع الكيان الصهيوني المحتل، وهمه الوحيد أن تبقى سوريا على ما هي عليه الآن!