إردوغان وسوريا.. كورونا للتهدئة والحسابات للمستقبل
كانت مشاركة الرئيس التركي السابق أحمد نجدت سازار في تشييع الرئيس الراحل حافظ الأسد بدايةً للانفتاح التركي على سوريا بعد التوقيع على اتفاقية أضنة في 20 تشرين الأول/أكتوبر 1990. وجاءت زيارة رئيس الوزراء حينها عبدالله غول إلى دمشق في 4 كانون الثاني/ديسمبر 2003 لتفتح صفحة مهمة في العلاقات بين الدولتين والشعبين، نظراً إلى تطوراتها اللاحقة. وكانت هذه العلاقات هي التطبيق العملي لنظرية “صفر مشاكل مع دول الجوار”، التي لم يبقَ منها سوى قطر صديقاً لإردوغان.
وقد حمّله زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، “مسؤولية هذا الوضع”، بعد أن اتهمه “بالتدخل السافر في سوريا، ودعم كل أنواع المعارضة السياسية والمسلحة، من دون التفريق بين الفصائل التي كانت تقاتل ضد الدولة السورية”. كما أنه “فتح الحدود على مصراعيها”، والقول لكليجدار أوغلو أيضاً، “أمام عشرات الآلاف من الإرهابيين الذين دخلوا سوريا وانضموا إلى النصرة وداعش وفصائل إرهابية أخرى، وذلك بالتنسيق والتعاون مع دول الخليج وأميركا ودول أوروبية تآمرت معاً ضد الدولة السورية”، التي صمدت بمعجزة لا تصدق، وبدعم من حزب الله وإيران، وبالطبع روسيا والصين .
وجاء التدخل الروسي العسكري المباشر في نهاية أيلول/سبتمبر 2015، وبعد ذلك إسقاط الطائرة الروسية من قبل الطائرات التركية في 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، ليغير من قواعد اللعبة السياسية والعسكرية، بعد أن أصبحت روسيا طرفاً مباشراً في الحرب السورية، بالكم والكيف الذي كانت عليه تركيا إردوغان.
وسبق ذلك الانقلاب الذي أطاح بالإسلامي محمد مرسي، حليف إردوغان العقائدي وسنده الأكبر في مشروعه الاستراتيجي من أجل إحياء ذكرى الخلافة العثمانية الإسلامية. وكانت الصدمة الأكبر بالنسبة إلى إردوغان هي تحالف حكام السعودية والإمارات والبحرين، وهم حلفاؤه السابقون في سوريا، مع عبدالفتاح السيسي، وإعلانهم جميعاً الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً.
عندها، وجد إردوغان نفسه في عزلة تامة، وخصوصاً بعد انفجار الأزمة في حزيران/يونيو 2017 بين الدول المذكورة وقطر، التي بقيت على تحالفها مع إردوغان، فوجد الأخير في الأمير تميم أمله الوحيد لمساعدته مالياً في مجمل مشاريعه وخطواته في سوريا.
وعندما لم يبقَ على أرضها سواه، اضطر إلى الاعتذار من بوتين ومصالحته، فسمح له الأخير بدخول جرابلس والباب في آب/أغسطس 2016، ثم عفرين في كانون الثاني/ديسمبر 2018، وتل أبيض في 9 تشرين الأول/أكتوبر، وأخيراً إدلب في 20 شباط/فبراير 2020.
ومع استمرار انتقادات المعارضة له، اعتقد إردوغان، وما زال، أن تواجده في المناطق المذكورة سيساعده على تطبيق مشاريعه ومخططاته الاستراتيجية في سوريا، إلى أن “لقنه” الرئيس بوتين، والقول أيضاً لكليجدار أوغلو، درساً، وربما دروساً مهمة خلال قمة موسكو، التي يبدو واضحاً أنها ستكون بداية النهاية لحسابات إردوغان في سوريا، بعد المكاسب الاستراتيجية التي حققها “عدوه اللدود” الرئيس السوري بشار الأسد.
ولذلك سببان رئيسيان، الأول أن إردوغان ظهر في إدلب وكأنه حامي حمى الإرهابيين، وهو ما أزعج الشعب التركي أيضاً، والآخر أن التورط التركي في ليبيا بعد سوريا “حرك الشعور العربي” لدى بعض الدول العربية، بعد أن بدأت قياداتها وإعلامها يتحدثون عن خطر “الغزو التركي العثماني لسوريا وليبيا”.
ويفسر ذلك تصريحات الرئيسين الجزائري عبدالمجيد تبون والتونسي قيس سعيد ومواقفهما، إذ عبّرا عن تضامنهما مع سوريا في حربها ضد الإرهاب والإرهابيين، وقصدا بذلك الرئيس إردوغان بشكل غير مباشر.
واكتسبت هذه التصريحات والمواقف أهمية إضافية، نظراً إلى توقيتها الزمني الذي جاء بعد زيارة إردوغان لتونس في 25 كانون الأول/ديسمبر والجزائر في 26 كانون الثاني/يناير الماضيين، فقد سعى، من دون جدوى، لكسب دعم هاتين الدولتين في الاتفاقية التي وقعها مع فايز السراج في ما يتعلق بترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا.
وأزعج هذا الاتفاق العديد من الدول الأوربية، وأهمها إيطاليا وقبرص واليونان وفرنسا وألمانيا، ومعها مصر وروسيا، وهي جميعاً دول مهتمة بالشأن الليبي الذي اكتسب أهمية إضافية بإرسال تركيا عساكرها، ومعهم الآلاف من مسلحي الفصائل التي تقاتل في سوريا، إلى طرابلس، لدعم المجموعات الإسلامية.
كما أزعج موقف إردوغان هذا تونس والجزائر، الدولتين الجارتين لليبيا، واللتين تعانيان تبعات الحرب المستمرة بين الجيش الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر، والعديد من الفصائل المسلحة التي تدعم حكومة فائز السراج في طرابلس. وقد قال إردوغان إنه يدعمها “من أجل حماية مليون ليبي من أصول تركية، وهم من بقايا الحكم العثماني”.
هذا الطرح “القومي التركي” أقلق مصر وتونس والجزائر، ومعها باقي الدول العربية، التي بدأت تتحرك إقليمياً ودولياً لتشكيل جبهة عربية، وأخرى أوروبية، وثالثة دولية، ‘للتصدي لأحلام إردوغان العثمانية، والتي لها ذكريات سيئة مع العرب والأوربيين معاً”.
وجاء الرد من وفد ليبي زار دمشق، والتقى الرئيس الأسد، ولحق به رئيس المخابرات المصرية عباس كامل، ليبحث مع المسؤولين السوريين تفاصيل العمل المشترك ضد إردوغان في ليبيا وشرق الفرات، حيث التواجد العسكري التركي، وهي الزيارات التي يبدو واضحاً أنها جاءت بالتنسيق المسبق مع الحليفتين السعودية والإمارات، اللتين تنتظران ضوءاً أخضر من الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما دامت علاقاته أيضاً سيئة مع الرئيس إردوغان لأسباب عديدة، أهمها تحالفه مع بوتين، وبالتالي حربه ضد أكراد سوريا المدعومين أميركياً.
ولم تتأخر ألمانيا وفرنسا في التعبير عن قلقها من سياسات إردوغان في ليبيا، إذ التقى ماكرون وميركل الجنرال حفتر، قبل يوم من زيارة الرئيس إردوغان إلى بروكسل، ليسمع ما لا يعجبه من مسؤولي الاتحاد الأوربي في موضوع اللاجئين، الذين تحولوا إلى ورقة تهديد لوح بها في وجه أوروبا التي لم تدعمه في إدلب.
ومع الرهان على نتائج التحركات العربية قبل قمة الجزائر، التي قد تعود خلالها سوريا إلى الجامعة العربية، لا تخفي الدول الأوربية عدم ارتياحها لتهديدات الرئيس إردوغان الموجهة إلى قبرص في موضوع الغاز شرق الأبيض المتوسط.
وقد يسعى إردوغان إلى أن يكون هذا الغاز وتوتره المحتمل همَّه القادم في السياسة الخارجية، ما دامت قبرص قضية جميع الأتراك القومية، ولا يعترض أحد فيها على ما سيفعله هناك.
كما لم يستطع أحد أن يعترض على التدخل العسكري في عفرين وشرق الفرات، إذ قال إن هدفه هو الإرهابيون الكرد، ويقصد بهم وحدات حماية الشعب، وهي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي.
تضع كل هذه المعطيات بتطوراتها المحتملة الرئيس إردوغان أمام تحديات صعبة ومعقدة، ليجد نفسه في خندق الدفاع عن النفس، بعد أن كان في خط المواجهة الأول في سوريا، بدعم من كل الذين يقفون الآن ضده، ليس في سوريا فحسب، بل في ليبيا والمنطقة العربية عموماً، وفي أوروبا برمتها، والسبب في ذلك مقولاته وتصرفاته التي أزعجت كل هذه الدول.
ويبدو واضحاً أن هذه الدول تخطط الآن للانتقام من إردوغان في سوريا، وهي التي دفعت به إليها، وشجعته على المزيد من التورط فيها، بعد أن أحست بعدائه الشخصي للرئيس الأسد. وقد قال في إحدى مقابلاته: “عندما كان إردوغان يتحدث معي، كان يتصرف وكأنه السلطان وأنا الوالي الموظف لديه”.
وأثبتت السنوات التسع الماضية أن هذا السلطان، والقول لكليجدار آوغلو، “يجرى وراء السراب الذي كلّف سوريا، ومعها تركيا والمنطقة عموماً، الكثير والكثير، من أجل إشباع غرائزه الشخصية فقط”، من دون أن يكون واضحاً ما إذا كان استخلص الدروس اللازمة من كل أخطائه وفشله أو ما زال يرى في نفسه سلطاناً حقق وسيحقق انتصارات كبيرة في سوريا والمنطقة، ما دام أنه حفيد السلطان سليم الذي دخل سوريا في آب/أغسطس 1516، ليعود من القاهرة في كانون الثاني/يناير 1517، وهو الخليفة العثماني الأول الذي اشتهر بدمويته وقتل والده وإخوته الثمانية وآخرين.
ويبقى السؤال الأهم: هل سيقبل إردوغان بالهزيمة أمام “عدوه الأكبر” بشار الأسد أو أنه سيجد مخرجاً لحربه النفسية، مستفيداً من حالة التهدئة، بسبب انشغال الجميع بوباء كورونا الذي وحّد العالم، ولكنه لم ينهِ عداء إردوغان للأسد، وخصوصاً بعد انتكاساته الأخيرة في إدلب، وانعكاسات ذلك على مجمل حساباته في سوريا عموماً، مع استمرار التحرك العربي والوساطة المصرية بين دمشق وكردها ضد “العدو المشترك إردوغان!”؟ وكيف؟
قد تضع هذه المعطيات إردوغان في وضع لا ولن يحسد عليه أبداً، وقد تدفعه إلى التفكير بالخروج سوريا، كما خرج منها العثمانيون بعد 402 عام من دخول السلطان سليم إليها.
هذه السنوات الطوال انتهت بانهيار إمبراطورية “رجل أوروبا المريض”، ويقول الأوروبيون الآن أن لا فرق بينها وبين إمبراطورية إردوغان. ويبدو أن الأسد سيقرر مصيرها، ليس بدعم روسيا وإيران فقط، بل عبر تحالفاته العربية والأوربية الجديدة، ولكن بعد هزيمة العدو المشترك، فيروس كورونا، فرب ضارة قد تكون نافعة!
الميادين نت