تشهد الساحة الإسرائيلية تجاذبات حول أكثر من عنوان خلافي يُخفي بعضها الموقف من استمرار الحرب والإقرار بفشلها والتكيف مع ما نتج منها حتى الآن. وفي ظل الإرباك الذي يسود مؤسسات القرار السياسي والأمني، ما سينعكس عاجلاً وليس آجلاً انقساماً حاداً في الرأي العام الإسرائيلي، تبرز فرضية شن حرب على حزب الله، في سيناريو مشابه لما طُرح في الأيام الأولى بعد «طوفان الأقصى»، ورُفض مخافة تداعياته الكبرى على إسرائيل والمنطقة.يعود تكرار هذا النوع من الطروحات، إلى حالة «القلق المؤسساتي» في كيان العدو من مفاعيل تهشّم صورة الردع الاستراتيجي نتيجة «طوفان الأقصى».
وإزاء ذلك، ليس أمام قيادة العدو إلا الإصرار – أو على الأقل أن تبدو مصرة – على محاولة ترميم بعض المرتكزات التي هدمها الطوفان، رغم أنه أصبح واضحاً تعذّر تحقيق المؤمل من هذه المساعي. لكن العدو يدرك أن الإقرار العلني بالعجز أو بالقيود التي تحول دون تحقيق الأهداف يُعمِّق مأزقه ويشكل ضربة قاصمة إضافية لمكانة إسرائيل الإقليمية. وما يسهم في تعقيد المشهد أيضاً، ربط الجبهات الأخرى بالحرب على قطاع غزة، بدءاً من جبهة جنوب لبنان، وصولاً إلى جبهة البحر الأحمر مع اليمن، واستمرار العمليات ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا.
في الموازاة، هناك مستوى من القناعة أيضاً بصعوبة أن يؤدي تحقيق نصر مفترض في قطاع غزة (وهو ما لم يتحقق)، إلى استعادة قوة الردع الاستراتيجي، بعدما ثبت، بالممارسة، محدودية قدرات إسرائيل الناجعة (باستثناء التدمير والمجازر) أمام ضربات قاصمة لأمنها القومي. وأصبح هذا المفهوم أكثر تجلياً مع الإقرار بالفشل في تحقيق الأهداف التي حاولت من عبرها ترميم ما تصدّع، ولو بصيغة الحد الأدنى.
ويبدو أن حرص قيادة العدو السياسية على صياغة عامة للأهداف، ورفض طلب القيادة العسكرية ترجمتها إلى محدّدات واضحة، يعود إلى إدراكها المسبق بأن الجيش قد لا ينجح في تحقيق الأهداف المنشودة، وأن تحويلها إلى عناصر محددة سيجعل من السهل قياس الفشل الإسرائيلي. ومن ضمن المحدّدات التي تجنبتها قيادة العدو، إخراج قادة ومقاومي «كتائب القسام» من قطاع غزة (نموذج خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982)، ما دام سيكون من المتعذر القضاء عليهم جسدياً أو دفعهم إلى الاستسلام، كترجمة لمفهوم القضاء على حماس. كما تجنّبت رفع شعار تجريد غزة من السلاح الثقيل كترجمة للتعهد بألا تبقى غزة مصدراً للتهديد.
من جهة أخرى، تنبع إعادة طرح فرضية شن حرب على حزب الله، في هذه المرحلة، من أن إسرائيل لا تستطيع الاكتفاء بـ«إنجازات تكتيكية» على الجبهتين مع لبنان وقطاع غزة، وفي الوقت نفسه، التكيف مع حقيقة أن يتمتع محور المقاومة بإنجازات استراتيجية هائلة، ويواصل بناء وتطوير القدرات التي تشكل تهديداً لإسرائيل، على ما أشار الرئيس السابق للجنة الخارجية والأمن في الكنيست، تسافي هاوزر، في مقال في «إسرائيل «هيوم» في 22 الجاري.
تؤشر هذه المقاربة إلى الرؤية الأوسع التي تنظر عبرها مؤسسات التقدير والقرار لواقع وآفاق معادلات القوة وتداعياتها على الأمن القومي الإسرائيلي. ويتفرع عن ذلك تقدير إضافي بأن أي حرب إذا لم تُحبط هذا المسار التعاظمي، ستكون فشلاً استراتيجياً لإسرائيل. وأن أي إنجازات لا تصب في هذا الاتجاه ستكون ظرفية ولن تغير من الاتجاه التصاعدي لحزب الله ومحور المقاومة. كما تُشير هذه المقاربة أيضاً إلى أن المعايير الفعلية التي تُقيّم عبرها المؤسستان السياسية والأمنية في كيان العدو لنتائج هذه المرحلة من المواجهة بين قوى المقاومة، وفي مقدمتها حركة حماس في غزة، وبين إسرائيل ومعها الولايات المتحدة.
مع ذلك، فإن أصل طرح هذا المستوى من المغامرة، لا يرتبط عضوياً بالحرب على غزة، وإنما أصبح أكثر تأكيداً في ضوء فشلها. وهو ينطلق، كما أوضح هاوزر أيضاً، من ضرورة إرباك خطط محور المقاومة «لحرب كبيرة ومتعددة الجبهات في المستقبل ضد إسرائيل، وفي موعد مريح (لمحور المقاومة) وعندما تنضج قدراته». ويتقاطع أصحاب هذه الرؤية حول مفهوم مفاده أنه ما دامت هذه الحرب مرتبطة بـ «متى» وليس بـ «هل»، فلماذا لا تكون «الآن». إذ إن انتظار الموعد الملائم لمحور المقاومة سيكون خطأً استراتيجياً.
في مقابل ما تقدم، تنبع الدعوة إلى هذا الخيار الحربي، من إدراك عميق لمخاطر تهشّم قوة الردع الإسرائيلية التي أكد مستشار نتنياهو السابق لشؤون الأمن القومي مئير بن شبات، على أن هناك حاجة ملحة لإعادة بنائها، وأنه من دون ذلك، قد تجد إسرائيل نفسها أمام تهديد وجودي مقابل أعدائها المتعددين الذين يتابعون إدارتها للحرب. وسيؤدي إلى فقدان مكانتها التي تستند إلى قوتها العسكرية.
مع ذلك، تتجاهل هذه المقاربة المتغيرات التي استجدّت على معادلات القوة وعلى البيئة الإقليمية، وأن أوان خوض مغامرة ناجعة قد فات، وأن الأهداف التي تطمح إلى تحقيقها أصبحت أكثر بعداً من أي وقت مضى. بل إن زمن الحسم العسكري الذي كان يشكل عنصراً رئيسياً في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، قد انتهى، وحرب غزة نموذج على ذلك، ناهيك عن إدراك أن شن حرب تدميرية ضد لبنان ستُقابل بتدمير هائل في تل أبيب وغوش دان، في أقل تقدير.
في كل الأحوال، يبدو أن الرؤية الغالبة في المؤسستين السياسية والأمنية حتى الآن، وإن كان أحد لا يجهر بها لأسباب مفهومة في دلالاتها وخلفياتها، تنبع من إدراك وجود هوة واسعة تفصل بين ما تطمح إليه إسرائيل ويُجسِّد مصالحها القومية، وبين القدرة على تحقيقها، رغم إدراكها أن تداعيات هذا المسار وجودية في المآل.
مع ذلك، ينبغي التنبه إلى حقيقة أن السيناريوهات لا تقتصر على حالة من اثنتين: إما الهدوء أو حرب شاملة وتدميرية كما يشهد قطاع غزة. وإنما هناك العديد من السقوف والسيناريوهات بينهما، مع وجود مروحة متغيّرات تجعل مستقبل الوضع مفتوحاً على أكثر من سيناريو محتمل مع تفاوت في أرجحية كل منها.
بالموازاة، لا تزال المخاطر والقيود التي تستبعد نشوب حرب واسعة مع حزب الله في لبنان هي المهيمنة حتى الآن على مؤسسات القرار، وخصوصاً مع إدراك أن تداعيات حرب كهذه لن تقتصر على لبنان وكيان العدو ، وإنما ستؤدي إلى حرب إقليمية شاملة. وإذا كان العدو يستند في تقديراته إلى أن حزب الله ليس من مصلحته نشوب حرب كبرى، إلا أن ما يقابل ذلك أمران جوهريان:
الأول، صحيح أن حزب الله ليس في وارد المبادرة الابتدائية لشن حرب، لكنه لن يسمح للعدو بأن يستغل ذلك في توسيع هامش اعتداءاته إلى سقوف يحددها حزب الله. ومن المؤكد أنه سيرد على أي مغامرة يظنها العدو مضبوطة، وبما يجبي منه أثماناً تناسبية وهائلة أياً تكن التداعيات.
والثانية، أنه مهما حاول قادة العدو إظهار حالة التوثب لشن حرب واسعة ضد حزب الله، عبر رفع مستوى التهديدات، وتظهير الاستعدادات العسكرية لهذا السيناريو، فإنهم لا يقلون حرصاً على تجنب خوض حرب جدية مع الحزب، لأسباب يدركونها جيداً كما سبق وأشار أمينه العام السيد حسن نصر الله. بعبارة أخرى، ما دامت الحرب على غزة مستمرة، فإن على إسرائيل أن تختار لدى دراسة خيار الحرب ضد حزب الله جواباً على السؤال الآتي: أيهما أولى، أمن المستوطنات الشمالية أم أمن تل أبيب وغوش دان؟
صحيفة الأخبار اللبنانية