“إسرائيل”.. الاستخبارات النوعية بدلاً من الإنذار المبكر
بدأ التهديد الوجودي الذي عبّر عنه “الأمن الأساسي” بالتراجع مع نجاح “إسرائيل” من خلال عقيدتها العسكرية في تخطّي التهديدات الأمنية، التي رافقت بداياتها الأولى، إضافة إلى تطور الحياة المدنية فيها، وصولاً إلى حرب عام 1967، التي عدّها بعض المطلعين نقطة تحوّل، انتهى الخوف معها على وجود “إسرائيل”، وأدرك الجميع أيضاً نقطة التفوّق العسكري لديها على الجيوش العربية، وما عزّزه خروج مصر من دائرة الصراع، بعد توقيع “اتفاقية كامب ديفيد” بينها وبين “إسرائيل”، وما لحق ذلك من انهيارات في الحالة العربية كمنظومة سياسية وعسكرية، وصولاً إلى ما نشاهده من موجات تطبيع عربية علنية.
يشير تاريخ الحروب الإسرائيلية، إلى تغيير في طبيعة التحدي العسكري، الذي يفترض أن يواجهه “الجيش” الإسرائيلي، فقد كانت حرب لبنان الأولى عام 1982 آخر مواجهة عسكرية، دارت فيها معارك جوية، واشتباكات بين القوات المدرعة.
ومنذ ذلك الحين لم تكن هناك حروب تقليدية واسعة النطاق، فانخرط “الجيش” الإسرائيلي في “حروب منخفضة الوتيرة”، يواجه فيها فصائل مقاوِمة تستخدم أسلوب حرب العصابات، مع انتشارها الواسع على مساحات كبيرة مأهولة بالسكان في غالبيتها، وعدم وجود هيكلية هرمية واضحة بل سرية في غالبيتها. أضف إلى ذلك امتلاك تلك الفصائل أسلحة صاروخية، تستطيع نقل المعركة بواسطتها إلى عمق الجبهة الداخلية الإسرائيلية.
إن غياب خطر اجتياح جيوش نظامية الأراضي المحتلة، جعل من مفهوم الإنذار المبكر الهادف إلى قراءة نيات العدو شن حرب على “إسرائيل”، والذي يستدعي تجنيد احتياطي “الجيش” في غضون 24 ساعة، حديثاً من الماضي، وغير فعّال في غالبية التهديدات التي تواجه “إسرائيل”.
وفرضت المتغيّرات الجديدة على “الجيش” الإسرائيلي كذلك التحوّل إلى مفهوم الاستخبارات النوعية، التي يستطيع من خلالها تصميم إستراتيجيته العسكرية في مواجهة أعدائه الجدد، من حيث قدرته على تصميم المعارك وتحديد نتائجها، ولا سيما في مجال امتلاك بنك أهداف للمهاجمة، بمعنى آخر، تراجع مفهوم الإنذار المبكر بتراجع حدوث الحروب الشاملة، وبدء ظهور مبدأ الضرورة لمواجهة التهديدات العسكرية الصغيرة، التي يقودها لاعبون غير دول، لذلك ظهر مفهوم الاستخبارات، كمفهوم أوسع وأشمل من الإنذار المبكر.
طبيعة المعارك التي خاضها “الجيش” الإسرائيلي ضد فصائل المقاومة، سواء في غزة أو لبنان، أوضحت له أن هناك دائماً تغيرات غير منتظرة في ساحة المواجهة، تطلب مرونة استخبارية مسبّقة التجهيز، يستطيع “الجيش” الاسرائيلي من خلالها خلق معلومات استخبارية نوعية في أثناء المواجهة، خصوصاً أن جغرافية انتشار فصائل المقاومة تعدّ بعد الانسحابات الإسرائيلية من غزة، وجنوبي لبنان ذات أفضلية منخفضة نسبياً لديه، وهو ما دفع “الجيش” الإسرائيلي إلى قطع شوط كبير في تطوير قدراته، في مجال الحرب الاستخبارية.
أدّى عدم قدرة “إسرائيل” على تنفيذ أسلوب المناورة الأرضية الهادفة، لتحقيق فكرة الحرب السريعة والحاسمة، والدائرة على أرض العدو – كما كان في السابق- إلى تغييرات جوهرية في مرتكز الحسم في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، بل تولّدت قناعة كبيرة لدى كثير من قادة المؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية أنه يتعذّر حسم تنظيمات المقاومة شبه الرسمية، بالمفهوم التقليدي للحسم على طريقة بن غوريون (الهزيمة الساحقة)، لذلك بات استنزاف الخصم أكثر مركزية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية، من حسم العدو وإخضاعه.
وهنا تبرز أهمية الاستخبارات النوعية في إستراتيجية (المعركة بين الحربين) كإطار إستراتيجي للصراع بين “إسرائيل” وفصائل المقاومة، وهي مبنية على هجوم ديناميكي يتّبع منهجاً صارماً لإدارة المخاطر مع الأخذ بالحسبان وتيرة التصعيد الذي يحتمل أن يكون سريعاً، وتقليص احتمال نشوب حرب، أضف إلى ذلك مرتكزاً أساساً في إستراتيجية (المعركة بين الحربين) بأنها تعتمد على منطق الحرب السرية ذات الطابع الأمني، من أجل ترك مساحة من الضبابية والإنكار لــ”إسرائيل”، تتيح للطرف المتضرّر عدم الرد.
وتعتمد (المعركة بين الحربين) على التقييم الدائم لوضع” إسرائيل” الإستراتيجي، في مقابل وضع أعدائها الإستراتيجي، من أجل فهم طبيعة ردود فعلهم على أي اعتداء إسرائيلي، في إطار (المعركة بين الحربين)، وهو ما يتطلّب استخبارات نوعية دائمة في كل الظروف والأوقات.
الميادين نت