إسرائيل بمواجهة الضفة الغربية: «التمساح المقلوب» يزداد قصوراً
أقلّ من انتفاضة شاملة، وأكثر من عمليات فردية متفرّقة. هذا ما خلصت إليه قراءة المنظومة السياسية والأمنية الإسرائيلية للأحداث الجارية في الضفة الغربية والقدس المحتلّتَين، في الآونة الأخيرة. إلى ما قبْل ساعة من عملية إطلاق النار على سيّارة المستوطنين في بؤرة «حومش» الاستيطانية، شمال غربي نابلس، قبل نحو أسبوع، كان التقدير المتكرّر على لسان قادة الاحتلال، هو أن موجة العمليات الحالية، هي غالباً فردية وغير منظّمة.
وهو ما ذهبت إليه أيضاً مباحثات عُقدت في وزارة الأمن «الكرياه»، في الأسابيع الماضية، حيث اتّفق الجميع مع قائد الأركان في الجيش الإسرائيلي ورئيس «الشاباك»، على أنه «لا يوجد خيط يربط بين العمليات، فلا توجد خلايا منظّمة، وليس صحيحاً وصْف ما يجري بأنه موجة إرهاب».
لكن «عملية حومش» كانت كفيلة بقلْب تلك التقديرات؛ «إذ دلّت على تخطيط مسبق ومهنية عالية»، بحسب إعلام العدو، الذي سخر حينذاك من رؤية القادة العسكريين والأمنيين، على اعتبار أن «الخلية المُنفِّذة عرفت أين تتموضع وكيف تفرّ من المجال سريعاً، وهذه خلية تُذكّر بمزايا شبكة حماس». وتضيف التقارير الإعلامية أن «العملية تدلّ على أن تصفية الشبكة الكبرى (للمقاومة) في الحملة التي حظيت في الجيش الإسرائيلي بلقبِ (التمساح المقلوب)، لم تكن كافية، وأن على خطّة (جزّ العشب) أن تُواصل العمل لتجتثّ خلايا الإرهاب».
الأسباب عضوية
على رغم القناعة الإسرائيلية المستجدّة بأن العمليات الأخيرة منظّمة ومدفوعة، تقود جزءاً منها حركتا «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وتُحرّضان على الجزء الباقي، إلّا أن ذلك لم يحدّ من النقاش المحتدم في الأوساط السياسية والإعلامية في الكيان، حول أسباب تصاعد هذه العمليات، والمسؤولية الإسرائيلية عن خلْق أسبابها. وفي هذا الإطار، تَعتقد الأوساط الأمنية لدى العدو، أن عدم ردّ فصائل المقاومة في غزة على اغتيال واعتقال خلاياها في الضفة، خلال الشهرَين الأخيرين، يمثّل بحدّ ذاته خطّة محكمة من قِبَل الفصائل، لدفْع المقاومين، والأفراد الفلسطينيين بشكل عام، إلى الردّ على تلك الاغتيالات والاعتقالات من داخل الضفّة نفسها.
لكن ما تَقدّم ليس السبب الوحيد؛ إذ قرّرت حكومة العدو المضيّ في العديد من المشاريع الاستيطانية في الضفة والقدس، تحت ضغط كبير من الحركات المتطرّفة، التي لا تفتأ تُشكّك في مدى «يمينيّةِ» نفتالي بينت. ولذا، فضّلت الحكومة مواجهة المعارَضة الدولية، وخصوصاً الأميركية في ظلّ إدارة جو بايدن، لمشاريع الاستيطان، على خسارة تأييد المنظّمات الاستيطانية. كذلك، يرى ران أدليست، الكاتب في صحيفة «معاريف»، أن الطريقة التي يعمل بها جنود الاحتلال في الأراضي المحتلة، تساهم في خلق أسباب العمليات، «حيث يتعلّق الأمر بشكل أساسي بالانتهاكات غير الضرورية»، بحسبه.
لكن أدليست يشير إلى عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على «التغلّب على نموذج الجندي ذي اليد الرخوة على الزناد، وهو نموذج يعشش داخله»، موضحاً أن الجيش عدّل أخيراً تعليمات فتح النار، «بحيث يكون ممكناً إطلاق النار على مَن يرشق حجارة على قواتنا في الضفة الغربية»، مضيفاً أن «هذا الأمر العسكري ينطبق أيضاً على الأطفال».
وإضافة إلى العناصر السابقة، ثمّة عوامل أخرى ذات طابع اقتصادي، كأزمة الغلاء المعيشي، وقضية انقطاع الكهرباء بسبب الديون المتراكمة على السلطة لصالح حكومة الاحتلال. وهذه الأسباب هي ما يسلّط عليه إعلام العدو الضوء بشكل خاص، كي يدفع عن تل أبيب مسؤولية تأزيم الأوضاع.
المقاومة المزدوجة
تسعى المقاومة إلى استغلال العوامل القائمة أصلاً، وتلك التي أوجدها سلوك الاحتلال في الضفة والقدس، لإطلاق موجة عمليات واسعة ضدّ قوات العدو ومستوطنيه. هذا، في الواقع، كان التغيير الأبرز في استراتيجية حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، خلال معركة «سيف القدس»، في أيار الماضي، وعقبها. وبشكل خاص، قرّرت حركة «حماس» تفعيل أنشطة المقاومة في الأراضي المحتلّة، في سياق السعي لتحقيق هدفَين أساسيّين – إلى جانب أهداف أخرى -: الأوّل، هو إدامة الاشتباك مع العدو، في غير قطاع غزة الخاضع حالياً لتفاهمات التهدئة؛ والثاني، الاستفادة من ساحة الضفة لكسب أوراق ضغط تساعدها في إدارة عملية التفاوض غير المباشر حول القطاع.
وفي هذا السياق، يشير كبير المحقّقين سابقاً في «الشاباك»، كوبي ميخائيل، في مقالة نشرها موقع «معهد أبحاث الأمن القومي»، إلى أن «حماس قرّرت اعتماد استراتيجية المقاومة المزدوجة، التي هي في الأساس محاولة للحفاظ على الهدوء الأمني في قطاع غزة، إلى جانب الجهود المتطوّرة والمكثّفة لإنشاء البنية التحتية في الضفة الغربية». وبدوره، هاجم دان شيفتن، في «إسرائيل اليوم»، ما وصفه بـ«الإدمان على وهم الهدوء» لدى القيادة الإسرائيلية؛ إذ إن «حماس معنيّة بهدوء مؤقّت في القطاع، لغرَض تعاظُم القوة استعداداً للمواجهة التالية. وبالتوازي، فإنها تُحدث إرهاباً في الضفة والقدس، كي تَرفع مستوى مكانتها كمسؤولة عن الفلسطينيين». واعتبر غرشون هكوهن، من جهته، في الصحيفة نفسها، أن «التركيز الزائد لحكومات إسرائيل على التهديد النووي على مدى السنين، مسَّ بقدْر كبير بتركيز الجهد في ساحات أخرى، بما فيها الساحة الداخلية أيضاً»، محذراً من أن «احتمال الانهيار الداخلي، أخطر بعدّة أضعاف من التهديد النووي الآتي من طهران».
على رغم ذلك، ظلّت المؤسّسة العسكرية والأمنية في الكيان، تميّز بين «حماس الضفة»، و»حماس غزة»، أقلّه إلى ما قبل «عملية حومش»؛ إذ إن السياسة الإسرائيلية تجاه القطاع تستهدف إدامة التهدئة مقابل التحسينات الاقتصادية، فيما هي في الضفة «جزّ عشبٍ» باستمرار.
لكن الذي استجدّ خلال الأيام القليلة الماضية، في ظلّ تصاعد العمليات في الأراضي المحتلّة، هو تهديد إسرائيل نائب رئيس حركة «حماس»، صالح العاروري، المقيم في تركيا، بالاغتيال، حيث تتّهمه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بالمسؤولية عن تلك العمليات. ويتساوق هذا الاتهام مع النداء الذي وجّهه كوبي ميخائيل في مقالته، قائلاً: «هذا هو الوقت الذي تحتاج فيه إسرائيل إلى إعادة النظر في تصرفّاتها تجاه المنظّمة (حماس)، وعليها أن تقوّض وتحيّد استراتيجيتها للمقاومة المزدوجة، وأن توضح أن حماس من وجهة نظرها هي قطعة واحدة، بالتالي فإن كلّ نشاط إرهابي في الضفة الغربية أو جنوب لبنان، هو بمثابة نشاط إرهابي من قطاع غزة».
هكذا، يبدو أن العدو يتّجه نحو التعامل مع المقاومة كقطعة واحدة أينما وجدت، والتخلّي عن مبدأ فصل الساحات، وهو ما قد يكون انقلاباً على خططه الحالية.
لكن هذا التحوّل دونه عقبات كبرى، أبرزها تأكيد «حماس» أن العودة إلى الاغتيالات تعني حرباً في كامل فلسطين المحتلة، إضافة إلى أن التركيز على الملفّ النووي الإيراني، لا يمنح تل أبيب الفرصة المناسبة للتفرّغ لجبهات الداخل المضطربة.