“إسرائيل” في الاتحاد الأفريقي.. أخطر من خطوة بروتوكولية
يمثّل انضمام “إسرائيل” إلى الاتحاد الأفريقي مرحلة مغايرة لسابقتها، عنوانها أن مطامعها لم تقتصر على احتلال الأرض الفلسطينية فحسب.
لأول مرة منذ عام 2002، قدّم سفير “إسرائيل” لدى إثيوبيا، أدماسو الالي، أوراق اعتماده عضواً مراقباً لدى الاتحاد الأفريقي. بهذه العبارة، أعلنت وزارة خارجية الاحتلال الإسرائيلي انضمامها إلى عضوية الاتحاد الأفريقي مرة أخرى، بينما علّق وزير خارجية الاحتلال الإسرائيلي يائير لابيد على هذا الإعلان، قائلاً: “هذا يوم احتفال بالعلاقات الإسرائيلية الأفريقية، وسيساعدنا على تعزيز أنشطتنا في القارة الأفريقية، ومع الدول الأعضاء في الاتحاد“.
بهذه التصريحات، أعلنت “إسرائيل” رسمياً حصولها على صفة عضو مراقب في الاتحاد الأفريقي، وقالت إنه حصاد عمل عليه الدبلوماسيون الإسرائيليون منذ نحو عقدين من الزمن. فما هي دلالات هذا الإعلان، وما الذي ترنو إليه “إسرائيل”؟ وما هي مخاطر هذه الخطوة؟
تاريخياً، قطعت الدول الأفريقية، الواقعة جنوبيَّ الصحراء الكبرى، علاقاتها بـ”إسرائيل” في إبّان الحروب الَّتي وقعت عامي 1967 و1973، إلى أن عادت تلك العلاقة عام 2002 ميلادية. ومنذ ذلك الحين، لم تسلّم “إسرائيل” بالقرار، واتخذت استراتيجية الانفتاح على أفريقيا تدريجياً، وبدأت تقاتل عبر الساحات الخلفية من خلال دول، وخصوصاً في منطقة القرن الأفريقي، ممثَّلة بأرتيريا وإثيوبيا، عبر سياسة التنقيط من جهة، والمساعدات ودعم بناء “سد النهضة” من جهة أخرى.
المستغرَب والصادم من هذا القرار هما أن دول القارة الأفريقية تُعَدّ من الدول الأكثر اكتواءً بنار العنصرية والآبارتهايد والفصل العنصري، حتى وقت قريب، ودائماً كانت تصطفّ إلى جانب الشعب الفلسطيني، وتطالب “إسرائيل” بإنهاء احتلالها الأراضي الفلسطينية. فكيف حقّقت “إسرائيل” هذا الاختراق؟
وصلت “إسرائيل” إلى أفريقيا وسط حالة عربية مترهّلة، ووضع فلسطيني مأزوم، وصراعات أفريقية متفاقمة بين دولها. وعلى الرغم من العزلة والعقبات التي كانت تواجه “إسرائيل” لتحقيق هذه الخطوة، فإنها كرَّست جهدها، خلال السنوات الأخيرة، وعملت بالتدريج على اختراق القارة الأفريقية، وتغلغلت فيها، وتمكّنت من توسيع نفوذها، أمنياً وعسكرياً واقتصادياً، للوصول إلى هذه اللحظة. وهذا ما عزّزه بيان خارجية الاحتلال الإسرائيلي، وقال بصورة واضحة: “تتمتع “إسرائيل” بعلاقات بـ 46 دولة في أفريقيا، ولديها شراكات واسعة النطاق وتعاون مشترك في عدد من المجالات المتنوّعة، بما في ذلك التجارة والمساعدات. وبعد الحصول رسمياً على صفة مراقب في الاتحاد الأفريقي، ستكون الأطراف قادرة على التعاون، من بين أمور أُخرى”.
يمثّل انضمام “إسرائيل” إلى الاتحاد الأفريقي مجدَّداً مرحلة مُغايرة لسابقتها، عنوانها أن مطامعها لم تقتصر على احتلال الأرض الفلسطينية فحسب، بل تسعى أيضاً للمحافظة على مصالحها، على نحو مباشِر، في القارة السمراء من دون الاعتماد على الدور الأميركي في المنطقة، مستخدمة الفزاعةَ الإيرانية كما كل مرة، ومستغلة حالة الضَّعف والترهُّل العربيَّين الكبيرين. والهدف من وراء ذلك تعزيز مشروعها العنصري التوسُّعي، ونهب مقدّرات الدول الأفريقية واستثمارها.
الأسئلة المهمّة، التي تطرح نفسها، هي: كيف سيؤثّر هذا التغلغل في القارة الأفريقية في الشعب الفلسطيني؟ وما انعكاس هذه الخطوة على القضية الفلسطينية؟ وكيف سيؤثر هذا القرار في الأمن القومي العربي بالنسبة إلى عدد من الدول العربية في المنطقة؟
انضمام “إسرائيل” إلى الاتحاد الأفريقي ليس خطوة بروتوكولية، بل يشكّل خطوة كارثية وطعنة للشعب الفلسطيني ولحقوقه الوطنية وقضيته العادلة. وأستطيع القول إن القضية الفلسطينية، بعد هذا الانضمام، تمرّ في منعطفٍ خطير.
فلطالما كانت القارة الأفريقية، منذ عقودٍ طويلة، تصف “إسرائيل” بدولة الفصل العنصري، وتطالبها بإنهاء احتلالها الأرضَ الفلسطينية، وتصطفّ إلى جانب الحقوق الفلسطينية المشروعة، في حين ستشكّل هذه الخطوة تراجعاً واضحاً في موقف الاتحاد الأفريقي تجاه القضية الفلسطينية نتيجة عدّة أسباب، أبرزها اتفاقات التطبيع مع “إسرائيل” التي عُقدت في عهد ولاية الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب. وهذه الخطوة سيكون لها الأثر السلبي في المواقف الأفريقية بشأن الرؤية والموقف تجاه القضية الفلسطينية، وربما ستؤدي إلى التخلّي عن الدعم الأفريقي للشعب الفلسطيني وقضيته، عبر التأثير في قرارات التصويت ضد دولة الاحتلال الاسرائيلي وسياساتها بحقه.
التأثير الآخر والمهمّ لهذه الخطوة في القضية الفلسطينية يتمثّل بتكريس سياسة التقاعس الدولي تجاه الالتزامات الأخلاقية والقانونية الواجبة على المنظمات الدولية بشأن حماية حقوق الإنسان والشعوب المحتلة. وستشجع هذه الخطوة الاحتلال الإسرائيلي على مواصلة عدوانه وانتهاكاته ضد الشعب الفلسطيني، كما أنها ستعزّز حضور مكانة “إسرائيل” عبر منصّة دولية تدعم سياساتها في أفريقيا، وهو ما سيُلقي بظلاله أثراً سلبياً بشأن القضية الفلسطينية.
ما أعطى “إسرائيل” فرصة ودافعاً إلى التوسع، عبر مثل هذا الاختراق، هو ضَعف الموقف الفلسطيني الرسمي ممثَّلاً بمنظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها وسفاراتها وبتراجع دورها وأدائها على صعيد الدبلوماسية الفلسطينية الرسمية، ناهيك بالانقسام الفلسطيني وتداعياته، وتراجع صورة القضية الفلسطينية، واستغلال “إسرائيل” هذه القضية في المحافل الدولية.
“إسرائيل”، كدولة احتلال، باتت تدرك يقيناً أنها تعيش أزمة وجود، وتعاني جرّاءها على مدار الوقت. وانضمامها إلى الاتحاد الأفريقي ما هو إلاّ خطوة لتعزيز أواصر العلاقات بدول أفريقية وإسلامية جديدة، بعد تطبيع علاقاتها مع دول خليجية مؤخَّراً، كي تشعر بأنها دولة طبيعية في المنطقة، ولها علاقات بأكبر عدد من الدول. وما كانت زيارة نتنياهو الأخيرة لدولة تشاد الأفريقية إلاّ لتعزيز المكاسب السياسية والدبلوماسية، ومحاولة الخروج من مأزق العزلة والوجود الذي تواجهه “إسرائيل” نتيجة أسباب باتت واضحة، أبرزها توسُّع محور المقاومة، والإنجازات الكبيرة التي سجّلها خلال السنوات الماضية، في مقابل التهديد الواضح الذي تمثّله قواه التي تدعمها إيران، سواء على صعيد الجبهة الشمالية في لبنان، أو الجنوبية في فلسطين، أو حتى سعي إيران في مشروعها النووي. فكل هذا، من وجهة النظر الإسرائيلية، يُعَدّ مصدر قلقٍ كبيراً، وبات يهدّد كيانية وجودها.
تُراهن “إسرائيل”، بصورة كبيرة، بعد هذه الخطوة، على تدشين حلف أفريقي داعم لها، يَحُوْل دون التصويت ضدها في المحافل الدولية، أو الوقوف موقف الحياد بديلاً عن التصويت ضدها؛ إذ يُحسَب، في إحصاء للمواقف التي اتَّخذها الاتحاد الأفريقي، أنه صوّت في المحافل الدولية منذ عام 1990 خلال 1400 تصويت، بمواقف ضد سياسات “إسرائيل” العنصرية. وما تأمله “إسرائيل”، بعد دخولها الاتحاد الأفريقي، إحداثُ تغيير في هذه المواقف لمصلحتها، مستغلةً حالة التصدع التي تعانيها العلاقات الأفريقية الأفريقية.
هناك تراجُع عربيّ واضح، في ما يتعلق بالحضور داخل أفريقيا، أدى إلى تجرّؤ “إسرائيل” على هذه الخطوة، فلم تبذل الحكومات العربية أيّ جهود، على صعيد الدعم والإسناد لدول أفريقيا، أو حتى أيّ جهود دبلوماسية تُذكَر في التصدي للتغلغل الإسرائيلي في مفاصل القارة الأفريقية على مدى عشرين عاماً، بل على العكس هرولت إلى التطبيع مع “إسرائيل” تحقيقاً ودعماً لأجندة أميركية، على قاعدة نصب العداء لإيران والتصدي لنفوذها في المنطقة، كعنوان رئيسي.
القضية الفلسطينية ليست وحدها المتضررة من حصول “إسرائيل” على عضوية في الاتحاد الأفريقي، بل هناك دول عربية أخرى في المنطقة، بحيث تشكّل هذه الخطوة خطراً حقيقياً على الأمن القومي العربي، وخصوصاً تجاه الدول العربية، كمصر والسودان وغيرهما، ناهيك بالخطر الكبير الذي تشكّله قواعد الموساد الإسرائيلي، والتي أقامتها “إسرائيل” في أريتريا، والتي تُطلّ على مضيق باب المندب عند سواحل اليمن، وهو ما يشكّل رِقابة إسرائيلية خطيرة على كل ما يجري في البحر الأحمر، ولاسيما نشاط العين الإسرائيلية بشأن خطوط إمداد دول محور المقاومة بالسلاح، وكل ما يجري في المنطقة ذاتها خدمةً للمصالح الإسرائيلية.
عربياً، بعد انضمام “إسرائيل” عضواً مراقباً إلى الاتحاد الأفريقي، ستكون المنطقة أمام واقع مغاير: بين تحوّل سنشهده في الموقف الأفريقي تجاه القضية الفلسطينية، وتدجين للموقف العربي وسيطرة عليه، وهو ما يستدعي مراجعة شاملة في كل الأصعدة، ومن كل الأطراف، سواء من القارة السمراء تجاه أمنها مائياً واقتصادياً وزراعياً، أو من الدول العربية التي لم تطبّع مع “إسرائيل” بعدُ، بشأن ضرورة إجراء مراجعات حقيقية تجاه ما جرى، وهو الأمر الذي يستدعي القيام بدور عملي للتصدي للزحف والتغوُّل الإسرائيليَّين في القارة الأفريقية، من خلال تفعيل أدوات الاتصال والعلاقات المتشعبة للدول العربية بالدول الأفريقية، ومجابهة النفوذ الإسرائيلي المتوقَّع، والوقوف ضدّ التأثير الإسرائيلي خلال المرحلة المقبلة.
فلسطينياً، بات من الضروري القيام بمراجعة لسلوك منظمة التحرير الفلسطينية، وتقويم مسار لهذا السلوك، سياسياً ودبلوماسياً، عبر مؤسساتها، سواء عبر السفارات خارجياً، أو حتى عبر السلطة الفلسطينية داخلياً، من خلال إعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية، وقطع كل أشكال العلاقات المباشرة والتي شجّعت الأطراف على قبول “إسرائيل” وإقامة علاقات بها، وتعزيز خيار الانتفاضة الشاملة والاشتباك مع الاحتلال، وتعزيز الجهود الدبلوماسية الفلسطينية لإبقاء القضية الفلسطينية حاضرةً في عقول الدول الإسلامية والأفريقية، من أجل إحداث فارق في المشهد، حتى تقطع هذه الدول والاتحادات علاقاتها بـ”إسرائيل”، أو تتخذ مواقف ضدها. فليس من المنطق أن تنتقد الاتحادَ الأفريقي بقبوله “إسرائيل” عضواً، وأنت تُقِيم علاقات بها.