تحليلات سياسيةسلايد

“إسرائيل”.. من البحر إلى البحر

عندما وصل أول مستوطنٍ إسرائيلي إلى شواطئ بحرنا المحتل في فلسطين، كان يقاتل من أجل سرقته، بمعنى أنه قتَل وعرّض نفسه للقتل ليستوليَ على بيت أو مزرعة. كان هذا الأمر ضرورياً، ولكن ليس لنهب الأراضي فحسب، فقد عدّه الصهاينة أيضاً دافعاً دائماً ومستمراً لمنع الأجيال الصهيونية المقبلة من التخلي عن الأرض.

لا يمكن إنكار أنَّ الإسرائيلي الآتي من أوروبا، والمدجج بالسلاح، والحاضر بأيديولوجيا دينية وقومية، لم يكن مستعداً للموت، ولم يكن مستعداً لويلات الحرب، ولكن عدم إنكار ذلك لا ينفي بطبيعة الحال أنه سارق ومجرم وإرهابي.

الانطلاق من هذه السردية مهم في فهم الحالة الإسرائيلية التي حاولت على مدى العقود الماضية الحفاظ على هيمنتها وعلى ما نهبته. فكرة “إسرائيل” بكل ما تحمله من إجرام تاريخي استمرت وبقيت في مرحلة ما بعد عام 1948، لأن من أنشأها كان مستعداً للموت من أجلها ومن أجل استمرارها، ومن أجل توريثها للأجيال المقبلة بالمفاهيم ذاتها.

في المحصلة، فإن المسألة لا تُعالَج معنوياً وعملياً بما يريده أصحاب الأرض فقط، فهذا أمر مفروغ منه: يريدون تحرير أرضهم واستعادتها والعودة إليها، وهذا الأمر يتحقق باستمرار نضالهم. المسألة ترتبط أيضاً في الجهة المقابلة، إسرائيلياً، بالرغبة في القتال للاحتفاظ بما تم نهبه، والقتال لنهب ما هو أكثر. هذا الأمر في جوهر الحركة الصهيونية، وفي جوهر بقائها. لذا، فإن العاملين المؤثرين هما ما يريدهما أصحاب الأرض وما يريدهما السارق. هذا ما يمكن قراءته من أحداث النكبة؛ ففي حينها، تمسّك أصحاب الأرض بأرضهم، ولكن تم إرغامهم على الخروج منها بعد ترهيبهم وقتلهم، وليس تهجيرهم، بل اضطهادهم.

المغزى من ذلك أن مسألة “إسرائيل” كحدث تاريخي تقوم على دعامتَين تستمدان قوتهما من بعضهما بعضاً: الأولى هي قوة المجتمع الاستعماري الصهيوني وصلابته، ولا سيما من الناحية العسكرية، والأخرى هي ضعف “الأعداء” وتشتتهم (المجتمعات المقاوِمة في فلسطين وخارجها).

على مدى عقود من احتلال فلسطين، عملت “إسرائيل” ضمن هذين المسارَين: تفتيت “الأعداء” وتمتين الداخل. هذان الأمران مهمان جداً بالنسبة إلى بقائها واستمرارها، وهما بطبيعة الحال مهمان لأي كيان أو مجموعة قبيلة أو دولة، لكن المختلف في الحالة الإسرائيلية أنها احتلال لا أرض له، بمعنى أنّ المحتلين الذين مروا في العالم، ولا يزال بعضهم محتلاً حتى اليوم، يمتلكون أرضاً ودولة، وأنهم احتلوا أراضي غيرهم واستولوا عليها. لذا، فإنهم “يخسرون” ما نهبوه أو استولوا عليه بالقوة، ويحتفظون بكيانهم الخاص التاريخي وبشعبهم ومؤسساتهم. على سبيل المثال، نذكر الاستعمارين الفرنسي والبريطاني في غرب آسيا وشرقها وأفريقيا. أما في حالة الاحتلال الإسرائيلي، فالأمر مختلف كلياً؛ خسارة الأراضي التي استولى عليها ونهبتها عصابته واضطهدت أهلها تعني خسارة الوجود وخسارة الكيان بأكمله واندثار الحالة السياسية والأمنية والعسكرية والاجتماعية لما يسمى “إسرائيل”.

بمعزل عن الاعتراف بـ”إسرائيل” وحضورها في الأمم المتحدة وفي منظمات دولية أخرى وعلاقاتها بالغرب والشرق، فإن الأمر لا يتعلق بما يُراد أن تَظهَر به، بل بما يمكنها الظهور به. يجب أن تحتفظ بعنصرَي القوة؛ بما يرتبط بها وما يرتبط بأعدائها. لذلك، فإن استقرار “إسرائيل” لم يكن يوماً قائماً بالمعنى العملي، فقادتها كانوا منذ احتلال لفلسطين منشغلين في تحقيق ذلك وتثبيته.

لا يمكن أن تتوقف الحروب، وإلا ستفقد قوتك لمصلحة أعدائك الذين يتربصون بك من أجل إنهائك، وليس هزيمتك فحسب. هذا ما يقولونه في العلن. أيضاً، هذا يعني أنَّ المجتمع الصهيوني في حالة غليان دائمة، وأنه معرض لهزات داخلية تعرضه لصدام بين مكوناته. لم ينعزل قادة الاحتلال ضمن مسار سلام، وانشغلوا عن كل أمر لبناء “الدولة” وتثبيتها، ولكن كل الخطوات كانت على حساب ذلك.

“إسرائيل” التي قامت في الأصل على أيديولوجيا متطرفة، وحوّلت يَهودها من “دين” إلى “قومية”، لم تكن يوماً قادرة على أن تصبح “دولة” مستقرة. الأزمة الداخلية الأخيرة كشفت من ضمن ما كشفته عن خلل في الهيكل الإداري والقانوني لمفهوم “الدولة” لدى الاحتلال؛ فما إن خرجت تظاهرات معارِضة للحكومة حتى بات الخطر وجودياً: أفراد ومجموعات في “الجيش” والأجهزة الأمنية المختلفة تعصي مصادر القرار وترفض الخدمة، الاقتصاد ينهار ورؤوس الأموال تهرب إلى الخارج، المؤسسات السياسية معطلة وعاجزة عن اتخاذ قرار، والمنظومة الاجتماعية المصطنعة في الأصل تتفكك.

ما يختلف في الأزمة الإسرائيلية الداخلية عن غيرها هو أن “إسرائيل” كيان احتلال لا أرض له ولا “شعب”، والحرب الوجودية تطال ما ترى أنه بات ملكاً لها، وهو لم يكن كذلك قبل 80 عاماً. عندما خسرت فرنسا أمام الجزائريين، عاد الفرنسيون مع جيشهم إلى فرنسا بعدما كانوا يعتبرون الجزائر أرضاً لهم. كذلك الأمر بالنسبة إلى بريطانيا في الهند، ولسلطة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حتى مفهوم الاحتلال غير مكتمل بالنسبة إلى “إسرائيل”، أي أنها ليست “دولة احتلال لدولة أخرى”، انطلاقاً من أن عناصر الدولة لديها غير مكتملة على صعيد الشعب والأرض بشكل أساسي.

عام 2020، قال الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إن “إسرائيل قد تنتهي بتغير الظروف التي قامت على أساسها من دون أن نحتاج إلى حرب، وهذا سيناريو واقعي”، مؤكداً في الوقت ذاته أن “الحرب الكبرى إذا وقعت، فستكون نتيجتها زوال إسرائيل، وأحد أشكال الردع هو التحضير للحرب الكبرى”.

وضع السيد نصر الله مصير “إسرائيل” بين احتمالَين؛ الأول هو تفككها من الداخل بتغيّر ظروف مرتبطة بها، والآخر هو قوة الردع التي يجري تثبيتها تحضيراً للحرب الكبرى، وهي ظروف مرتبطة بأعدائها. وفي الحديث ذاته لمناسبة الذكرى العشرين لعيد المقاومة والتحرير، قال السيد نصر الله إن “إسرائيل قبل عام 2000 ليست كما بعده”، وهذا باعترافهم أيضاً.

اللحظة التي باتت فيها “إسرائيل” في خطر وجودي، وفق ما يقول منظروها وقادتها، كانت في الهزيمة الأولى، وفي أول انسحاب من أرض بالقوة. الحديث هنا عن جنوب لبنان وبقاعه الغربي عام 2000. منذ تلك اللحظة، توالت الإخفاقات، وبدأ المجتمع الصهيوني يتحرك في الاتجاه المعاكس الذي يتعارض مع فكر “المؤسسين” ومع المجرمين الأوائل الذين امتلكوا عناصر الانضباط والتخطيط وتقديم النفس في مقابل ما يريدون سرقته، وهذه ليست صفات حميدة، بل تعبّر عن واقع الجيل الإسرائيلي في حينها مقارنة بالجيل الحالي.

في العقدين الماضيين، تعرض الاحتلال الإسرائيلي لنكسات عديدة على مستوى الردع والأمن والعسكر، لكن الأهم من ذلك هو أن المجتمع الاستعماري الإسرائيلي انكشف أمام أعدائه في نقاط ضعفه التي تقضي عليه، فبات كل تهديد تهديداً وجودياً لدى الصهاينة نفسهم، لأنه أولاً يطال قواعدهم وبنيتهم والأسس التي قام كيانهم عليها. وثانياً، لأن العجز عن فرض واقعٍ مغاير بات صعباً مع تقدم أعدائهم في اتجاههم ومحاصرتهم بقوة أكبر وأدق. وثالثاً، لأن ميزان ما يمكن أن نخسره وما يمكن أن نفوز به بات مطروحاً بقوة لديهم.

مئات الآلاف من الصهاينة الذي وصلوا إلى فلسطين المحتلة عبر البحر ونهبوا وسرقوا وقتلوا، فعلوها فعلتهم وهم يعلمون أنهم قد يدفعون حياتهم مقابل ذلك، لكنهم وعدوا بالأمن والاستقرار، وبأن هذه الأرض ستكون لهم، وأنهم لن يتعرضوا لهجمات، وسيواصلون حياتهم بشكل طبيعي ضمن دولة تهيمن وتستقوي على كل ما هو حولها، وأي أرض تريدها ستأخذها، وأن لديهم جيشاً قوياً تقوم طلائع قواته بطرد الفلسطينيين والاستيلاء على أرزاقهم تمهيداً لمجيئهم. بذلك، شكّل الصهاينة عصاباتهم و”جيشهم” فيما بعد، ومؤسساتهم الأمنية والعسكرية والسياسية، ومجتمعهم الاستيطاني في المدن المحتلة والمستوطنات التي بنيت على أنقاض القرى والبشر.

بشكل سريع ومختصر، نعود إلى اليهودي الصهيوني الذي كان يعيش في بولندا عام 1948، لو دعته مؤسسات الاستيطان الإسرائيلية إلى المجيء إلى “إسرائيل الجديدة”، ونبهته لأنَّ عشرات الآلاف من الصواريخ الدقيقة والبالستية جاهزة لاستهدافه، ومئات الآلاف من المقاتلين المدربين يحاصرونه ويستعدون بإشارة للانقضاض عليه وإعادته من حيث أتى، وإلى عمليات دهس وإطلاق نار وطعن تعرض حياته للخطر بشكل يومي. أمام هذا وغيره مما لم نذكره، جزء منه معلوم منه والآخر مخفي، هل كان سيأتي إلى فلسطين عام 1948 ليستوطنها؟

الإجابة في أقل تقدير بحاجة إلى دراسة كافية ووافية للحالة في ظروفها وزمانها، لكن ما اختلف ليس الزمن فقط، بل الأجيال. ربما في عام 1948، كان اليهودي سيرد بأنه، على الرغم من كل ذلك، آتٍ وسينضم إلى “الجيش”، فالجيل الإسرائيلي حينها كان يعطي بعض الإشارات بما يخص ذلك، ولو أنها إشارات ضعيفة، لأن الواقع كان مختلفاً، لكن يمكن السير بها في زمانها وفي جيلها. ماذا عن الجيل الحالي؟ ثمة تحول يبنى عليه، فالدعامتان اللتان تستمد منهما “إسرائيل” قوتها طرأ عليهما تحول جذري: تفتت المجتمع الاستيطاني وتفككهم، وقوة الأعداء وصلابتهم.

عودة المستوطنين إلى البحر نتيجة لذلك. إنها ليست أُمنيات. يبقى الجواب مرهوناً بعوامله التي تتحقق، والتي يتحدث عنها الصهاينة أكثر من غيرهم.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى