دراسات

“إسرائيل” وتاريخ أزمة | العمل والأرض (1-3)

محمد فرج

بن غوريون حاول تكريس فكرة العمل العبري لربط المستوطن بالأرض، وحاول بعده الليكود رشوة جميع المستوطنين للعمل والبقاء. لكن الحرب كشفت عن هشاشة هذا الرباط.

 

مرّ أكثر من 30 عاماً على كتاب المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري “الاستعمار الصهيوني وتطبيع الشخصية اليهودية”. ما قصده المسيري بـ”تطبيع الشخصية اليهودية” هو الجهد الذي بذلته الحركة الصهيونية في محاولة تحويل شخصية التاجر المرابي في عصر الإقطاع والطفيلي في الغيتو إلى شخصية إنتاجية تعمل في المزارع والمصانع وترتبط بالأرض الجديدة (فلسطين).

درس بن غوريون تاريخ يهود أوروبا جيداً، وعرف أن تأسيس اتحادات التجارة الأوروبية القوية ألقى بالمرابين اليهود في أوروبا إلى الرصيف، فتحوّلوا من تجار العصر الإقطاعي إلى طفيليين في الغيتو. كانت تجارة اليهود بدائية، فلا يوظف التاجر أمواله في الإنتاج، ولا يبتاع مواد أولية، ولا ينفق على صناعة الأقمشة، وكان وسيطاً فقط بين منتجات لا يسيطر عليها، فجاءت اتحادات التجارة الأوروبية القوية لتنهي دوره وتقصيه.

الشفاء من طفيلية الغيتو

وجد بن غوريون نفسه عام 1948 أمام هذا المعطى؛ كتلة بشرية من المعتادين على طفيلية الغيتو، وتركة أخرى من نمط التجارة والمراباة المتخلف في عصر الإقطاع، والتي لم تستطع التكيف مع نمط التجارة الحديث الصاعد في أوروبا، فهربت إلى بولندا للاستمرار في العمل نفسه قبل وصول موجة التحديث إليها، فماذا فعل بن غوريون بهم لاستكمال مشروع إحلالي لسكان أصليين، يعرفون الأرض جيداً (الفلسطينيون)، ويمتلكون الأدوات والمهارات اللازمة للزراعة والحفاظ على الأرض؟ كان سؤال بن غوريون الأكثر حرجاً: كيف يمكن تحويل يهود أوروبا إلى شخصيات إنتاجية أولاً؟ وكيف يمكن بناء علاقة تجمعهم مع الأرض (فلسطين) ثانياً؟

استوحى بن غوريون فكرة الكيبوتس من مبدأ “العمل العبري” الذي نحته أهارون ديفيد غوردون، والذي يقول إنه للتخلص من الطفيلية الغيتوية، لا بد من أن يعمل اليهودي بيديه، و”الأمة اليهودية” لن تصبح أمة إلا إذا ضمّت في صفوفها العمال والفلاحين”. ربما كانت هذه الأفكار هي التأسيس الأولى لما عرف لاحقاً بـ”الصهيونية الاشتراكية”، أو حتى لما اعتبر بعدها “يساراً” في “إسرائيل”.

بحسب المسيري، فإن الكيبوتسات الأولى لم يكن فيها ما هو خاص؛ لا وجود للأسرة بمعناها المعروف، وتؤخذ وجبات الطعام في أماكن مشتركة للجميع، وعدم تناوله فيها يعد ارتداداً إلى نمط الغيتو القديم، ولا مرتبات لأحد، ويحصل الجميع على كل الاحتياجات اللازمة من الطعام والمسكن وصولاً إلى خدمات غسل الملابس والرعاية الطبية ورعاية الأطفال والتعليم، والأطفال يعيشون بعيداً عن أهلهم، ولا يقومون بزيارتهم إلا في وقت محدد بعد الدراسة وبعد ساعات العمل.

لم تكن الاشتراكية أيديولوجيا شخصية لبن غوريون، ولكنها كانت الأداة الوحيدة الممكنة للململة المكونات المتشظّية بين يديه، والتي لا يجمعها شيء.

حاول بن غوريون تذويب جميع الهويات الخاصة لمصلحة هوية واحدة جامعة. ولتحقيق لذلك، استخدم ثنائية الكيبوتس والخوف؛ الكيبوتس الذي يؤمن الاحتياجات، والخوف من الخروج منه أو من فلسطين، الأمر الذي يعني (بحسب الدعاية الصهيونية) العودة إلى حياة الغيتو، إذا ما استثنينا “المنفى البابلي المرفّه” (الولايات المتحدة الأميركية).

الكيبوتس.. برج وسور

احتلت العصابات الصهيونية أراضي الفلاحين الفلسطينيين، وقتلت من فيها، وأحاطت الأرض بسور، وبنت فيه برجاً لمراقبة الفلاحين الذين قاوموا احتلال أراضيهم. داخل الأراضي المسوّرة (الغيتو الجديد)، بحث بن غوريون عن حلمه في سيكولوجيا جماعية شرسة وعنيفة ومنتجة، نجح في الأولى والثانية (الشراسة والعنف) وفشل في الثالثة (الإنتاجية الملتصقة بالأرض)، وذلك بسبب عدد من التطورات:

  1. 1. مع وصول مناحيم بيغين إلى رئاسة الحكومة في “إسرائيل”، تحول النمط الاشتراكي الذي سعى إليه بن غوريون إلى النموذج الرأسمالي الليكودي الجديد، وعانى الكيبوتس أزمات في الاستمرار.
  2. 2. ضمن محاولات تذويب جميع الانتماءات لمصلحة الهوية الجامعة، اصطدم الكيبوتس برغبة المرأة في أن تكون أماً، وكان ذلك أحد العوامل الاجتماعية التي وقفت عكس اتجاه مخطط بن غوريون.
  3. 3. مع أن نسبة الإنجاب لدى يهود الدولة العثمانية كانت طبيعية، وكذلك كانت نسبة النساء غير المتزوجات أقل من 1%، وكان 60% من النساء يتزوجن قبل 21 عاماً، إلا أن يهود الكيبوتس لم يكونوا كذلك، وكانت نسب الزواج والإنجاب أقل بكثير. عانى الكيبوتس من شحّ في إنتاج أجيال عاملة جديدة، وظلّت الحاجة إلى استيراد الكتلة البشرية المهاجرة قائمة.
  4. 4. محاولات تحويل الكيبوتسات من طابع زراعي إلى صناعي لم تحقق الأهداف المطلوبة.
  5. 5. لم تتشكّل الذهنية الإنتاجية التي بحث عنها بن غوريون، فمستوطنو الكيبوتس، بحسب تعبير المسيري، أرادوا العيش بمرح شعوب أميركا اللاتينية، وبالمستوى المعيشي لسكان أميركا الشمالية آنذاك، ودفع ضرائب قليلة مثل الإيطاليين، حتى إن عدداً من العملاء الفيتناميين المهاجرين إلى “إسرائيل” بعد هزيمة الولايات المتحدة في فيتنام تعرّضوا للانتقادات من يهود الكيبوتس بسبب إنتاجيتهم العالية، واضطروا إلى التكيف مع الإنتاجية البطيئة الطفيلية.

لم ينجح الكيبوتس الزراعي أو الصناعي في تحقيق أحلام بن غوريون، ووقع في النهاية في مسار الإعالة التي يعيشها الكيان نفسه (يذكر أن المصارف الإسرائيلية كانت تشتري أسهمها الخاصة لتمنع هبوط أسعارها، وبالتالي خسارة المساهمين، وكل ذلك يعتمد على التمويل الخارجي).

توارى حلم الكيبوتس أمام النزعة الرأسمالية لليكود الذين أخذوا “إسرائيل” باتجاه عضوية التبعية الكاملة للراعي الرأسمالي العالمي، فهل تحقق حلم بن غوريون بعدها عبر الأيديولوجيا الاقتصادية المعاكسة؟

العمل والأرض مجدداً

سارت فكرة الليكود على اتجاه معاكس لأفكار بن غوريون في ميدان الاقتصاد، فالاشتراكية الصهيونية ليست في نظره الأداة الفعّالة لاختراع هوية جامعة للمستوطنين؛ من بيغن وشامير إلى نتنياهو كان العمل مستمراً في الحفاظ على المستوطنين كمتلقي خدمات في بيئة العمل الرأسمالي العالمي، وحملة أسهم تجب حمايتهم دائماً من الخسارة (فرضية الأسهم التي لا تخسر وتشتريها البنوك لنفسها عندما يلزم)، وترعاهم الشركات العالمية متعددة الجنسيات باستثمارها الفائق في “إسرائيل”، وتطوير عقود الشراكة (partnership) مع الشركات الإسرائيلية الناشئة، وليست شهوة نتنياهو لقطاع التكنولوجيا إلا مراكمة في هذا الاتجاه.

تعمل في “إسرائيل” 430 شركة عالمية، 81% منها أميركية الترخيص والمنشأ، ومنها Intel، Google، Apple، HP، IBM، Microsoft، Cisco، وغيرها. بعد طوفان الأقصى، استدعى “جيش” الاحتلال العديد من العاملين في هذه الشركات للمشاركة في المعارك كقوات احتياط.

في مؤتمر خاص لهذه الشركات، ناشد الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هرتسوغ، المديرين التنفيذيين لهذه الشركات ضرورة التعاون مع هؤلاء العاملين إلى حين عودتهم من الحرب: “عودتهم من الجبهة، وخلع اللباس الموحد (المقصود البزة العسكرية)، ومتابعتهم العمل بعد أن يتركوا ذكرياتهم والتروما في غزة، هدف ضروري. أناشدكم حفظ حقوقهم والوقوف إلى جانبهم”.

ومع أن أيديولوجيا الشركات تنطوي على بند خاص في التعامل التفضيلي مع “إسرائيل”، إلا أن الأمر لا يخلو من الابتزاز الكامن عضوياً في سياسات الشركات الربحية؛ علّق المدير التنفيذي لشركة التأمين الضخمة EY، شارون شولمان، بضرورة الاعتراف بهذا الشركات كأصول استراتيجية لـ”إسرائيل”، وبالتالي خفض الضرائب وتسهيل بيئة الاستثمار بشكل أكبر.

في ظل غياب العاملين عن هذه الشركات لمصلحة خدمة الاحتياط، تنطوي العلاقة بين “إسرائيل” وهذه الشركات على مجموعة من عوامل التفسّخ، ومنها:

  1. 1. صبر الشركات على الإضرار بعملياتها الإنتاجية محدود. عندما اندلعت الاحتجاجات ضد التعديلات القضائية في كيان الاحتلال، أفاد عدد من التقارير بأن 70% من الشركات بدأت بعمليات سحب أموال وتحويل جزء من عملياتها إلى خارج كيان الاحتلال، فإذا كان هذا رد فعلها على الاحتجاجات ضد التعديلات القضائية، فكيف تكون مفاعيل إجراءاتها في الحرب؟
  2. 2. تراجع مستويات الاستثمار مع ارتفاع مستويات المخاطر وعدم اليقين.
  3. 3. تفكير العاملين (الذين هم جنود احتياط أيضاً) في خيارات بديلة للانتقال إلى فروع أخرى للشركة نفسها، ولكن في مكان آخر في العالم.

خريطة العمل في “إسرائيل” لا تعزّز ارتباط المستوطنين بالأرض، بما يكفي لقرار بقائهم فيها إذا اختل عنصر الأمن، ومن ذلك:

  1. 1. الأرض (الزراعة) ليست العنصر الأساسي في العمل اليوم، فالزراعة تشكل 0.77% فقط من عدد العاملين في “إسرائيل”، في حين تشكل الصناعة ما يقارب 15%، ويمتص قطاع الخدمات الحصة الأكبر من العاملين بنسبة 84%.

وفي حين يشكل الفلسطينيون والعمالة الآسيوية المستوردة (تحديداً تايلاند) أغلبية العمالة الزراعية، فإن العاملين في قطاع الخدمات لا يجمعهم رابط بالأرض، ورصيد العاملين في قطاع الخدمات هو المهارات التي يمكن نقلها معهم إلى أي مكان آخر في العالم.

  1. 2. تشير أغلب التقارير الدولية إلى أن مجموع القوى العاملة الموظّفة في “إسرائيل” هو 4.3 ملايين شخص، يعمل 10% في قطاع التكنولوجيا الذي يسمح بسلاسة الانتقال من موقع إلى آخر في العالم، ويعمل ما يقارب 498 ألفاً منهم في قطاع التعليم، الذي يسمح هو الآخر بالانتقال إلى مكان آخر (باستثناء العاملين من الحريديم في اليشيفا)، وينطبق الأمر على 457 ألف شخص من العاملين في القطاع الطبي.
  2. 3. تدرك “إسرائيل” أن أغلب قواها العاملة، وبطبيعة التطور التكنولوجي، هي قوى قادرة على أن تحمل مهاراتها معها للعمل في مكان آخر في العالم. لذلك، تحاول العمل دائماً على رفع الدخول (رشوة البقاء)، إذ يبلغ معدّل الدخول في قطاع التكنولوجيا مثلاً 8700 دولار، وفي بقية القطاعات يبلغ المعدّل 3400 دولار.
  3. 4. يضم “جيش” الاحتلال عدداً من “القوى العاملة”، ومن ذلك 170 ألف متفرغ، وأكثر من 400 ألف احتياط. وإذا قرأنا استطلاعات الرأي في ظل طوفان الأقصى، فإننا نجد أن 42% من هؤلاء الجنود فقط يرغبون في الاستمرار في الخدمة بعد نهاية الحرب في غزة، ومن الممكن أن يكون الحصول على وظائف في الشركات الأمنية العالمية الخاصة أكثر أمناً بالنسبة إليهم من العمل في صفوف قوات الاحتلال.
  4. 5. يواجه سوق القوى العاملة في “إسرائيل” تحدياً حقيقياً، فمن جهة ما زالت وشائج الارتباط بين العمل والأرض هشّة. ومن جهة أخرى، ينبئ المستقبل بجيل غير عامل، ولا سيما مع تشكيل الحريديم 13.6% من المستوطنين، 60% منهم اليوم تحت عمر 20 سنة.

انطلاقاً من أفكار أهارون غوردون والصهيونية الاشتراكية، حاول بن غوريون تكريس فكرة العمل العبري لربط المستوطن بالأرض، وحاول بعده الليكود المتحمس لعمل الشركات والأسهم والمصارف رشوة جميع المستوطنين للعمل والبقاء، ولكن تبدو الحرب قادرة على الكشف عن هشاشة الرباط بين العمل بالأرض في “إسرائيل”.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى